سنة سادسة بلا وطن
ست أعوام مضت منذ أخر مرة أتنفس بها نسماتك يا وطني، أخر مرة الامس به ترابك الطاهر، أخر مرة أرتوى بجمالك ومطرك.. كانت أخر مرة أشعر بأني طفلة مدللة لديك يا وطني.. أخر مرة كانت لكل شيء منذ ست أعوام.. مازلت أتذكر حتى اللحظة أخر صباح لي فيك.. كنت بالصف التاسع حينها، وكان أخر يوم للإختبارات النصفية كنت أختبر لأخر مرة مادتي المفضلة "اﻹجتماعيات" كان يوما مهيبا تملاؤه المشاعر المتضاربة التردد الحزن، الفرح، والخوف من الوداع.. أتذكر جيداً نظرات صديقاتي، ومعلماتي، وكل من يعرفني لي، وكل تلك التساؤلات التي لم أكن أعلم بأي صيغة أجيب عليها.. أهذه النهاية! في ذلك الصباح عم صمت غريب لم أجد له تفسيراً للآن.. إنتهيت من إختياري والحمدلله واثقة من أني سأحصل على العلامة الكاملة.. سلمت ورقتي بثقة لم أعهدها من قبل..أظنني أردت أن لا يراني أحد للمرة الأخيرة بملامح الحزن فأنا دايماً الفتاة المرحة المشاكسة التي يحبها الجميع.. صعدت لساحة الفتيات في المدرسة حيث أجمل ذكرياتي فيها وأحبها لقلبي.. هنا كنت أرفع يدي لتحية العلم..هنا بكل فخر وإعتزاز يصل لعنان السماء طلبت من الدنيا أن تردد نشيدي..هنا صرخت بأعلى صوتي "تحيا الجمهورية اليمنية تحيا الجمهورية اليمنية تحيا الجمهورية اليمنية" على هذه المنصة ألقيت مئات الإذاعات والمقدمات والبرامج والرقصات والمسرحيات والمسابقات.. وهناك كنت أقف أول الطابور بكل ثقة فأنا الطالبة المثالية المحافظة الملتزمة بقوانين مدرستي. . في هذه المساحة كنت ألعب مع أصدقائي الأطفال وصديقاتي.. وفي تلك الزاوية كنت أجلس مع صديقتي أصيلة كانت فعلاً أصيلة بصداقتنا نادمت كثيراً لأني لم أودعها، ولأني تشاجرت معاها لسبب تافه فغادرت؛ أظن أننا لم نكن نود توديع بعضنا لذا قررنا الهروب.. بالحقيقة لم أودع أحد. . ذلك اليوم لم أصعد للباص كعادتي فقد كنت أنتظر أبي أنا وأختي وأخي الصغيران.. هرب لساحة العيال كانت فارغة جلست فوق المنصة وفوقي علم وطني يرفرف بكل حرية.. على هذه المنصة إحتفلت بنحاجي وتفوقي وإنزفيت ورميت لسماء قبعة تخرجي فرحاً.. "وعلى طارى الفرح نحكي..حكاية حفلنا الليلة..حكاية عن طموح كبير..في رويتنا تفاصيل" ساحتك، درجك، جدرانك، وكل شيء من كيانك ودعته إلا من كانت له روح.. مازلت ذكرى أخر مرة أمشي بين بيوت حارتي مطبوعة بذاكرتي.. تلك المساكن المتواضعة التي تحوى بداخلها مئات من قصص البؤس ورغم هذا لا ترى على وجوه سكانها سوى ملامح الرضاء والصبر ولا تسمع إلا صوت الضحك والدعوات.. بقالة عبدة التي لطالما كنت أهرب إليها في فرحي وحزني حتى في إفلاسي.. ومسجد الخير الذي شيد قريباً بفعل أيادي الخير وصوت الصلاة منه أيام شهر رمضان المبارك. كلها قد إنحفرت بذاكرتي للأبد. وهذا الطريق الطريق الذي كنت أسلكه لأشتري حاجيات البيت حين كنت رجل البيت حين إغترب ابي عنا، وعن الوطن بحثاً عن لقمة عيش لم يعثر عليها في وطني.. على هذا الطريق بذات أظن أن موهبتي بدأت، تلك الأغاني والكلمات التي إعتدت تأليفها هي بدأتي الحقيقة.. أكره الوداع حقاً. . في المساء آت عمي وعائلته وبعض أقاربنا لتوديعنا.. لم يحدث شيء يثير الذاكرة إلا لحظة الوداع كنت أنا وبنات عمي نضحك والدموع تغرق أعيننا.. آه كم إشتقت لإحتضانهن بقوة.. وذهب الجميع.. وبقيت أنتظر أخر لحظة لي بهذا المنزل الذي بنيته بهاتان اليدان، كنت مازلت بالسابعة من عمري حين كنا نبني هذا المنزل.. كنت آت مع أبي لتفقد العمال، وكنت أحب مساعدتهم كثيراً.. تلك الحجارة التي حملتها حتى حرجت نفسي، وخليط الإسمنت الذي خلطته بيدي أشياء كثيرة شيدتها بهذا البيت لهذا تربطني به صلة عميقة عميقة جداً. . الساعة الثانية فجراً كانت أخر ساعة لي بهذا البيت.. والساعة الخامسة كنت أطير فوق أرض وطني بين غيومه.. رغم الحزن الذي تملكني إلا أني رأيت أجمل شيء في حياتي "شروق الشمس"منظر لا تستطيع كلماتي أن توصفه.. تلك الخيوط الذهبية التي تسللت من بين غيوم بيضاء تحتضن الشمس وكأن الشمس أم لها قد سحرني المنظر حقاً.. ست أعوام عشتها بلا وطن بلا حرية.. ست أعوام قضيتها وأنا أشتاق لك، أحن لك، وأتالم لأجلك لحظة وصلي لأرض الغربة إحترقت أعضائي حين قابلتها.. قابلتي بحرارة حارقة، ووجه متجهم وكأنها الجحيم.. كل شيء بها لم أحبه، كل شيء فيها غريب لم اعتاده حتى الآن، لا شيء يشبهك يا وطني، لك كل السلام وكل الحب وكل الأمان.
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص