(حلم طفل)
يفترضُ بي أن أكون قد أتممتُ المرحلة الابتدائية؛ إلا أني هاهنا أبيع البطاطا اللذيذة للطلاب الخارجين من مدرستهم.. كانت مدرستي فيما مضى،إلا أني أُجبرت ُعلى تركها؛ لا لا لم أطرد أو أفصل منها لأني مشاغب أو بليد بالعكس تماماً فقد كنت من أشطر طلابها،كنت طالباً مجتهداً وأحب طلب العلم.. لكن ظروفى أجبرتنى على التخلي عن طلب العلم لأجل طلب الرزق... فموت والدي كسر ظهري أنا وأمي وشقيقتاي الصغيرتان... وجعلنا تائهين نتخبط هنا وهناك.. مات حين كنت بالثامنة من عمري أي حين كنت بالصف الثالث،كنا قد انتهينا من الاختبارات النهائية،وذهبت لآتي بشهادتي،كانت علاماتي كاملة،وكنت الأول على الصف. كنت أركض بأقصى سرعة؛لأُري والدي تفوقي فهو من كان يذاكر لي رغم أنه لما ينهي اﻹعدادية لظروف عائلته المادية إلا أنه ذكي حقاً. أردتُ أن أُريه بأن تعبه وسهره معي لم يضع،كما أنه وعدني بأن يشتري لي سيارة حمراء كنت قد رأيتها من قبل،ولم يكن لدينا المال وقتها لشرائها فنحن عائلة محدودة الدخل.. حين وصلت للمنزل كانت أمي تبكي بحرقة لم أرها من قبل هكذا،وشقيقتاي بدأتا بالبكاء أيضاً. أمي ماذا حدث؟ ولم هذه الدمووع؟ أتظنين بأني فشلت؟ انظري أنا الأول ياأمي،أين أبي سيفرح كثيراً؟ كان بكاؤها يزيد كلما ذكرت أبي.. هل أغضبكِ أبي؟ لا تقلقي أنا سأجعلهُ يعتذر لك؛ أين هو الآن؟ أمي لماذا أنتِ صامتة؟ أين أبي الآن؟ بينما كنت أسألها عن والدي،سمعت أصواتاً لا تصدر بهذه الشكل إلا حين موت أحد. كانت الأصوات تقترب أكثر وأكثر مني... دُق باب منزلنا والأصوات أصبحت قريبة هناك تقف وراء هذا الباب.. كنت ذكياً بما فيه الكفاية لأربط الأحداث ببعضها؛ بكاء أمي بحرقة،وهذه الأصوات الجنائزية،كلها قد وضحت الصورة السوداوية التى لم ترحم صغر سني لتنهشني من الأعماق وتتركني جثة هامدة لا حياة لها.. فتحت الباب وأول ماوقعت عيناي الصغيرتان عليه هو تابوت خشبي،وبداخله شيء طويل كطول أبي له نفس العرض أيضاً ملفوف بكفن أبيض،وبضع أشخاص تعرفت لبعضهم قالوا.. عظم الله أجرك نظرت إلى أمي وقد أصبحت تصرخُ،وتضرب نفسها ثم لهذا الشيء أمامي أهذا أبي؟! الله يرحمه ويجعل مثواه الجنة شددت قبضتي على ماكنت سعيداً به قبل دقائق،نظرت إلى شهادتي بحسرة ثم لأبي الجثة الهامدة التى ستدفن تحت التراب بعد ساعات؛ ثم لأمي المنهارة،وشقيقتي اللتان لا تعلمان أنهما أصبحتا من اليوم يتيمتين وحتى أنا أصبحتُ يتيماً.. انفجرت تلك اللحظة بعد أن استوعبت ماحدث،ورميت بنفسي على أبي أحتضنه تمنيت لو أخترق جسده وأسكن بداخله لندفن الأثنين ولكن،قدر الله وما شاء فعل.. وهكذا أصبحتُ رجل البيت،والمسوؤل عنه رغم صغر سني إلا أن والدتي كانت تعتمد على بكل شيء،وكأنها ترى أبي على ملامحي... تركت المدرسة رغم منع أمي لي،إلا أن الحال الذي كنا نعيشه جعلها تقتنع بفكرة تركي للمدرسة.. أمي كانت تعمل من قبل بالخياطة،لكن أبي منعها من العمل قائلاً لها: أنا زوجك،وهم أبنائي وسأطعمكم من تعبي أنا لا أريدكِ أن تتعبي بالعمل،وتهمليِ أطفالنا هم أغلى ما نملك.. وألم تدرك أنت أيضاً يا أبي بأنك أغلى ما نملكه.. والآن لكونك رحلت يا أبي؛أمي عادت للعمل بالخياطة فإطعامنا للبقاء على قيد الحياة أهم الاهتمامات.. وأنا أيضاً بحثت عن العمل وعملت بأكثر من عمل أولاً:عملت لدى أحد أقاربنا إلا أن زوجتة غضبت مني وطردتني تلك السمينة البغيظة.. ثم عملت في بيع المناديل عند إشارات المرور،وكنت أيضاً أغسل السيارات،وأعمل بالعصرية فوق الباص،وفي مواسم الزراعة كنت أعمل بمزرعة أبي محمد إنه طيب يعطيني أجري والكثير مما يوجد بمزرعته.. كانت عائلتي تسعد كثيراً.. والآن ها أنا أبيع لزملائي القدماء بطاطا. أبي اشتقت لك وكثيراً أتعلم هذا صحيح!! لو لم تخرج ذلك اليوم للعمل،وبقيت بالمنزل لما تعرضت لذلك الحادث ولم تكن لتموت،ولما أصبح هذا حالنا .. كنت سأكون الآن بالمدرسة؛أتعلم لحين أكبر وأكون طبيباً يُداوي لك جروحك؛ كنت سأسكنك بيتاً كبير أنت وأمي وشقيقتي وأنا كما كنا نحلم دوماً.. كنا سنعيش معاً تحت سقف واحد سعداء ومرتاحين. ولكنك مت؛ وأحلامنا ماتت معك.
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص