في رحاب منقذ الأبطال. .. الشهيد أمين الحمادي..!
1 *** في كل مرة اقصد الجبهة - جبهة الصلو تحديدا - أكون قد تهيأت روحياً و نفسياً لعدم الالتقاء بمن سقط شهيداً على درب النضال والكرامة والانعتاق إلا من رجل واحد لن يكون غريبا أن يخصص له هذا النص من بين عشرات الأسماء الكثيرة التي جمعتني بهم ذكريات جميلة لن تنمحي من صفحات الذاكرة ما بقيت حيا فالشهيد الأستاذ عبد الله محمد قائد الحدادكان صديق الدراسة والمهنة ، وابن القرية الذي لا أستغني عنه في كثير من الأمور ، وكيف أنسى وجوه تلاميذي واقاربي وأبناء قريتي من طارق عبد القوي إلى عدنان مختار وماجد السروري الذي قيد شهيدا دونما يعرف مصير جثته بمأرب إلى الشهيد وائل حسن سيف الصلوي كان من طلابي الأذكياء جدا في مدرسة الصديق قبل عشرون عاماً ناهيك عن كونه قريبأ لي؛ والشهيد رشيد اليوسفي كان رفيقا وصديقا ؛ و الشهيد علي محمد قائد الصلوي كان صديقا ورفيقا وشاركت بجنازته ؛ والشهيد محمد القدسي زميل مهنة ورفيق نضال وشاركت بجنازته المهيبة بقدس ، والشهيد عبد الله العوني كان مرافقا للقائد عدنان الحمادي ومقاتلا لا تلين له شكيمة وتقاسمت معه ليال حتى فراش النوم واللقمة والأحلام الكبيرة البعيدة ويحتاج وحده لرواية خاصة به والشهيد ريدان القدسي كيف أنسى وجهه الملائكي؟،..... وجعبة الذكريات ملأى بأسماء الشهداء الذين رحلوا مع شهقات فجر الوطن وغادرونا قبل الآوان. في كل مرة أتجه فيها إلى جبهة الصلو أكون قد اقتنعت أنني لن أرى هذا الشهيد أو ذاك الا عم الشهداء... نعم عم الشهداء فليس ثمة جريح يوجد بالجبهة إلا و هو يناديه بكل الحب والاحترام والامتنان ب " عم أمين " ، و لهذا اطمئن وعيي أن أمنحه لقب " عم الأبطال" أو المنقذ . حينما كانت خطاي تغذ السير صوب مقدمة الجبهة وتحديدا وانا أجتاز قرية الصيرتين بالصلو استوقفتني كثيرا الذاكرة عند هذه القرية. المواجهات التي دارت هنا مع العدو لا تزال أثارها شاهدة على رحى المعارك الشرسة التي تدونت هنا على الأحجار و الأشجار والمتارس وطريق السيارات الشديدة الوعورة. *** رأيت علامات الأحزان مرسومة فوق وجوه الأمكنة. لكأنني أسمع همسات الطريق وهو يقبل خطاي ويترجاني أن أجيبه على سؤاله.... أين عم أمين الحمادي؟ كل شيء لا يريد أن يصدق أن عم أمين قد استشهد. لا الأحجار تريد أن تصدق. لا الأشجار تريد أن تصدق. لا المتارس تريد أن تصدق. لا مدارب السيل ولا مدارس الشعاب وحقولها ولا ارداب الجبل تريد أن تصدق أن عم أمين الحمادي قد استشهد وأنها لن ترى وثباته وتقفزاته على أفياءها تهب كي ينقذ جريحا ويسعفه للمستشفى أو لبمد ويزود المقاتلين بالذخائر ، أو ليقف خلف المعدل " الإنفور - منمي " ليسند المدافعين عند هجمات العدو على مواقعهم. توقف طقم عسكري وعلى متنها بضع جنود كانوا في طريقهم لمقدمة خطوط النار بقرية الشرف... أصروا بكل الاحترام أن أجلس بجوار مروان البرح المشهور بأبو غيلان البرح بطل يستحق وحده رواية مستقلة تكتب عن بطولته. كان خلف مقود السيارة كعادته مبتسما يخاطبني : - والله عيب يا أستاذ تجلس على جودي السيارة والشباب على الكرسي.... والله تعيرنا قريش. يخفض صوت أنشودة وطنية حماسية لعندليب اليمن وثوارتها الوطنية أيوب طارش " يا سموات بلادي باركينا وهبينا كل رشد ودعينا نجعل الحق على الأرض مكينا ". يسئلني... لماذا أنت متجهم الوجه خليها على الله يا أستاذ... لا نملك إلا نواصل السير.... .. وصمت... ثم استدرك بجملة ( الله يرحمك يا عم أمين... - يشير باصبع السبابة ويستتلي - هناكـ أصبت قبل ثمانية أشهر ولولا شجاعة ومغامرة عم أمين ودخوله بالسيارة لاسعافي لكنت قد قضيت ولم تكن لتعرفني... لأننا تعارفنا في مخيم أثناء فترة العلاج من الاصابة. اكتفيت بالرد عليه ... بالضبط ... هذا صحيح فقد كان بالي مشغولا بالأمكنة التي رحت اشتم رائحة العم أمين أحمد قاسم عابقة عليها. *** تقف السيارة أمام مقر القيادة السابق بقرية الصيار ... تتكثف صور الذكريات رغم قلتها مع العم أمين الحمادي فتحلق بي وتغمرني ففي هذا المكان وداخل هذا البيت تعرفت على معرفة حقيقية وعن معدنه الإنساني النادر. أترجل من طقم السيارة التي واصلت سيرها صوب مقدمة خطوط النار. تدلف خطواتي حوية المنزل الذي تشاطرنا غرفه على مدى أسبوعين من كانون الأول من العام الذي انقضى. وانا ادخل الحوية لكأنني سأراه ... بجسده المجعوث وشعره السلس الناعم الذي لم يغزوه السواد سوى خطوط متناثرة متباعدة ، عكس لحيته التي اشتعلت شيبآ. اتجاوز باب المنزل الذي كان مفتوحاً على مصراعيه إلى الصالة. رأيته متكئا كعادته بزاوية الغرفة التي كنا نهارا نجلس فيها لتناول القات وإدارة شؤون الجبهة وليلا للمبيت. كان لا يتنازل عن تلك الزاوية لأحد.... لم يتنازل بها سوى لي حينما جاء وكنت قد جلست فيها ذات ليلة. ثمة همز ولمز أحسسته يدور بين بعض الأفراد و استوحيت منه أنني جلست بمتكئه ، وكأنهم كانوا ينتظرون موقفا محرجا وشيكا سأقع فيه ولتلافي الموقف نهضت واقفا لأترك له متكئه فإذا بصوته الذي كانت فيه نغمة محببة ... نغمة تنم عن شخص ساخر ... شخص ذكي ... صاحب مواقف طريفة وقادر على صنع المقالب بإتقان خاصة إن كان هو المستهدف فيها دونما تخلو تلك المواقف من طرفات وبنفس الوقت من تربية سلوكية غير مباشرة للأخرين فإذا بصوته : - مالك.... والله ما تقوم... لو واحد غيرك والله ما يجلس... ارجع... لو سمحت. وأمام قسمه بالقعود اقتعدت من جديد على متكئه. أحاول الان داخل هذه الغرفة أن استذكر الفتات من أحاديثنا معا. كم اتألم الأن أنني وعدته بضرورة تسجيل لقاء معه يسرد لي فيه حكايته منذ التحق بالجبهات ، وقصص إنقاذه للجرحى ومغامراته لإنقاذ جثث الشهداء من مناطق النيران... وأجلت تسجيل اللقاء معه أولا لعدم وجود ذاكرة كافية بالهاتف لتسجيل لقاءات مهمة سواء مع أمين أو غيره ؛ وكذا لعدم وجود شحن كاف ببطارية الهاتف. اخترت بقعة من الغرفة تقريبا هي نفس البقعة التي اتكئت عليها ذات ليلة من تلك الليال التي جمعتني بالعم أمين الذي كان متكئا ببقعته الدائمة و أغمضت جفني لا أريد استجماع سوى هيئته وصوته الذي بدأ يلملم لي بقايا نشارة سيرته في الجبهات... تخيلت ابتسامته الممزوجة بالثقة والذكاء والسخرية... تخيلته كأنه على عجل يلخص لي نثارة حياته كتلك الليلة التي لخصها لي أجملها ما لا أستطيع أن أكتبه ليس عجزا وإنما لأن الأوان لم يحن بعد لكتابته. *** ليلتذاك ذهبت أسئله أسئلة بديهية لكنها ضرورية... - من أي قرية يا عم أمين. - من قرية العارضة بني حماد. - كم عمرك.... ؟ - تقريبا فوق الخمسين... وأقل من الستين.... شوف هذا الشيب بدأ يطلع من لما بدأ السكر يظهر عندي ... والسكر ما ظهر الا من أيام ثورة فبراير 2011. - ماذا كان عملك قبل.؟ - انا طول عمري سواق... من تعز للقرية ... بين الحديدة وصنعاء... وبين الحديدة وتعز ... وبين الحديدة والسعودية... وفي الاخير بين تعز ومدينة التربة ... وتعز والمواسط والنشمة... وقبل الحرب استأجرت من شركة راحة تاكسي... على اساس امتلكه بعد فترة وارجعته للشركة مع دخول الحوثيين تعز. - معك أبناء؟ - إذا ربك بايصلحهم معي ثمانية الكبير رمزي الله يحفظه ويحرسه مع الجيش الوطنى بجبهة ميدي والبقية صغار سن لا زالوا في المدرسة. - متى التحقت بالجيش الوطني مع اللواء 35 مدرع تحديدا. - في البداية انا من الذين أسسوا نقطة السمسرة على طريق التربة تعز وكانت النقطة تابعة للمقاومة الشعبية وجلست فيها فترة ولما اختلفت مع هايل الأزرق قررت ترك النقطة وكان القايد الحمادي قد بدأ يعيد تجميع اللواء 35 مدرع بمدينة النشمة فاتجهت إليها وجلست بالمدرسة التي كانت تستخدم مقرا للواء حتى اقابل الفندم عدنان وبرأسي ثلاثة أشياء: أن يسلمني طقما وأكون سائقا مع اللواء وإذا لم أ توفق بذلك أن يعطيني بندقا وسأدخل أقاتل بالصفوف الأولى وإن قال لا سأطلب منه كريكا وحجنة أو حتى مجرفة أو مطرقة أكسر بها حجر وابني متارس... المهم أشتي أشارك ولا أرى هذا الحوثي يدخل لبلادي ويصل إلى قريتي. *** فتحت اعيني وذهبت ألملم ما تبقى من حديث تلك الليلة التي لم يكمل فيها بقية رحلته مع الجيش الوطنى حيث شنت الميليشيات الحوثية هجوما من جهة منفذ علفقة ببهدف استعادة موقع قرية الصيار بجبهة الصلو الذي كانت قواتنا قد حررته منها حيث هب واقفاً وقال بعد إذنك يجب أن أسند الشباب وأخذ المعدل ( المنمي) الذي اشتهر بأنه واحد من أفضل الذين يستخدمونه أثناء المعركة. عندما عاد رأيت اسارير روحه تشع بالحبور وعلامات الفرح تنعكس مرتسمة على كيمياء وجهه المنهك بفعل ضنك سنوات العمر من ناحية ومن ناحية أخرى بفعل البرد القارس بتلك الليلة... ما أروع ان نحس بالسعادة في قلوب الأبطال وأن نراها على شفاههم منحوتة وفوق ألسنتهم مسطورة كتلك العبارة التي تناثرت لؤلؤا من ثغره ... الحمدلله كسرنا الهجوم.... ليش أخاف من مخلوق سلطه الله علي. وهو يجلس... يشعل اصبعا من سيجارته نوع (البون) ومع نهدة التعب المنزفرة من صدره انبعث الدخان عبر أنفه وفمه على هيئة عمود راح يتلاشى في فضاء الغرفة ... يبتسم ناحيتي... ويقول: - ايوا يا أستاذ ... أين توقفنا بكلامنا....؟ - عندما وصلت النشمة... هز رأسه وقال : - الوقت الآن قريب الفجر ... ان شاء الله مرة ثانية سأحكي لك بالتفاصيل ... الآن سأعطيك خلاصة فقط. 2 *** بينا كنت أنتظر من عم أمين أن يسرد لي حكاية تشبع على الأقل رغبتي بما يكفي لأن تتشكل منها مادة للكتابة إذا به بكلمات معدودة يختصر كفاحه ومشاركاته لما يزيد عن العامين ونصف العام بجبهات المواجهات مع المليشيات مقاتلاً وسائقا لسيارة اسعاف المصابين والجرحى وأخذ جثث الشهداء من مناطق النيران. نعم اخذ بعبارات مقتضبة معدودة يلخص لي حكايته منذ التحق بالجبهات فقال التحقت بمجموعة توفيق الشيباني وقاتلت معها بالضباب وفتح طريق الضباب ومعارك الدفاع عن معسكر المطار بعد تحريره ، ولما صرفت للواء من دول التحالف أول سيارة مجهزة لاسعاف المصابين استدعاني القائد الحمادي وسلمني مفتاحها واستمريت سائقا لها بجبهة المطار وكنت أول إسعافي عند افتتاح جبهة الصلو ، ولم اتركها الا عند وقوع مشكلة أوقعني فيها حسن النية وطمع البعض. وبعد مرور شهرين على العقاب العسكري داخل السجن خرجت وعدت لجبهة الصلو لكن كمقاتل حتى هذه اللحظة وحتى تتحرر الصلو وتعز وكل البلاد. هكذا اختصر لي بقية الحكاية في تلك الليلة. سأخرج من هذا البيت الذي عرفت فيه عم أمين وغيره من المقاتلين بجبهة الصلو قاصدا مقدمة الجبهة التي صارت على مشارف قرى الجبل المطلة على أودية مديريتي الصلو وخدير. *** وانا أسلك منعرجات الجبل يلحقني بضع جنود تشاطرنا الطريق الذي ما أن اجتزنا منه مسافة ليست بالقصيرة حتى وقف جندي لا تسعفني الذاكرة بإسمه ... وأخذ يتمتم ويحرك شفتيه فهمت أنه يقرأ سورة الفاتحة.... (الله يرحمك يا عم أمين).... وقال: سأبقى كلما مررت بهذا المكان اتذكر العم أمين الحمادي. وجدتها فرصة سانحة ربما تجيب على كثير من الأسئلة التي لم أجد لها إجابات كافية شافية عن هذا الشهيد الذي يشغل ذاكرتي الآن لذا سارعت باقتناص الذي لن يجعله ينساه كلما مر بهذا المكان. - معقول لهذا الحد تحتفظ للعم أمين بموقف لا يمكن تنساه. - يا أستاذ... مرة تحاصرت وبعض الأفراد بهذه البقعة ولم نستطع الرجوع بسبب القناص الحوثي وعدد من الحوثيين كانوا متمركزين بمتارسهم وأخرين يحاولوا يتسللوا إلى مواقعنا ، وفجأة جاء العم من جهة بيت يسمونه ببيت السعودي - لأنه صاحبه مغترب بالسعودية - وكان معه المعدل المنمي وأخذ يناوشهم ... كلما حاول القناص يضرب يرد عليه وعلى بقية الذين يقومون بإسناد المتسللين فاستطعنا أن ننسحب تحت مشاغلته لهم حتى تمترسنا بشكل أفضل ولولا تغطيته لنا لكنا وقعنا فريسة للعدو. سألته ... هل تعرف من قبل أمين الحمادي.؟ وهو يجر نهدة عميقة (الله يرحمه لا يوجد مقاتل بجبهات الصلو والضباب والمطار الا ويعرفه).... أنا أول ما تعرفت عليه أيام النشمة (تركته يسترسل باستفزاز إيجابي.... مش معقول ... يا رجل ... أنت عادك تعرف جديد بالجبهة)... وهنا ابتسم ابتسامة ساخرة وكمن يحاول إثبات وجوده بالجبهات ومعرفته بأمين فانبري مستأنفا حديثه. - عندما جاء النشمة أتذكر انه إنضم لمجموعة توفيق الشيباني... وتفاجئت به يحمل المعدل المنمي وهو لم يلتحق بالمجموعة الا من أيام قليلة. واستمر يشارك في المعارك الشرسة التي عرفت بمعارك الضباب... وأعتقد أنه أتجه عبر طريق طالوق مع توفيق الشيباني ليشارك بمعارك فتح الطريق مع المقاومة الشعبية القادمة من جهة الأجزاء التي تحررت من جنوب غرب مدينة تعز. واتذكر انه تعرض خلال تلك المعارك لإصابة بأحد قدميه. - رائع ... معلومات مهمة.... حفزته فاستتلى موردفا حديثه. - ايوا... بعد فتح طريق الضباب شارك بمعارك تحرير معسكر المطار من الميلشيات الانقلابية وفي معارك الدفاع عنه من أن يسقط بأيديها ثانية. اعتقد أنه استلم مفتاح اول سيارة اسعاف استلمها اللواء من دول التحالف العربي... وقام برش هيكلها باللون الأسود ولما سألته ... هل رشيتها للتمويه فرد علي (الله يرحمه) طبعا... لكن يا ابني مش للتمويه عن العدو لما اكون معي اسعاف وإنما حتى أستطيع التوغل بها أكبر مسافة ممكنة. كان شجاعا مقداما ... كم من المرات نجى فيها من الموت المحقق. لقد رأيت ذات مرت طلقة رصاصة نفدت من الفرم الأمامي لزجاج سيارته ومرت فوق رأسه بمقدار كف اليد. ومرة أخرى أطلقوا عليه الرصاص وأصيب إطار سيارة الإسعاف.... ومشى على الطاوة الحديدية حتى وصل لمكان مناسب وغير الإطار. عند هذا الموقف وبينا كنا نحث الخطى صوب مقدمة الجبهة يلحقنا أحد الأطقم ...وتوا نستقله إلى حيث اضطر الجندي ورفيقيه الافتراق عني صوب متارسهم في حين قادتني قدماي للغرفة الخاصة بمقر قيادة الجبهة. *** كم وددت وجهه يظهر بين تلك الأوجه التي كانت تأتي وتذهب للغرفة ؟! كنت كلما ألتفت إلى متكئ بالغرفة أتمنى أن أرى العم أمين عليه بشعره الأسود الناعم الذي لم يعد يسرحه كما كان يسرحه قبل الحرب أثناء عمله سائقا للتاكسي الأجرة حد ما هو بين في صورته على رخصة قيادة السيارة... أو أرى لحيته التي اشتعلت بالبياض ولم يعد يحلقها إلا عندما يغادر الجبهة لزيارة أسرته بالقرية. إن أراه بالمعطف الروسي والغترة أو الشال مردوفا على كتفه. عبثا ذهبت محاولات أن أراه بأية هيئة من الهيئات التي عرفته بها. وفجأة يدخل النقيب محمد الجرادي... أحد أقدم الضباط بجبهة الصلو... واحد في تقديري الخاص لا أراه إلا أنموذجا للضابط المثالي الذي نبحث عنه في جيشنا الوطني الحديث. ضابط لا يتعاطى السجائر ولا يمضغ القات ولا يقترب من أي تعاطيات كالاسراف في شرب الشاي والقهوة والعصائر. دوما حاضر في الجبهة لا يغادرها الا نادرا وبإذن رسمي ويعود بموعده . انه من أولئك الذين نتمنى أن يكون كل أفراد جيشنا الوطني على غرار أخلاقه وصفاته العسكرية. على إثر تصافحنا باشرته بطلبي أريد منك شهادة.؟ وهو يبتسم كعادته المألوفة دونما تكلف مع محدثيه يرد باستغراب .... - شهادة...!؟! - نعم... عن أمين الحمادي. دوت ألاصوات من كل الذين في الغرفة مرددة العبارة (الله يرحمه). يتطلع الضابط الجرادي صوب قاع الغرفة برهة مغدقة بالصمت... يرفع رأسه ويلتفت صوبي... يجتر نهدة عميقة من أوتاد روحه ونياط فؤاده ... وببطئ يسترسل بالحديث ...... - أخاف... من مخلوق سلط عليا... أو... كيف أخاف مخلوقا سلط (بضم السين) علي. أو... ليش اخاف من مخلوق سلط علينا. هذه الجمل كنت دائماً اسمعه يرددها في أصعب المواقف ... ولذلك لا يمكن أن أنسى العم أمين الله يرحمه. يصمت... وكمن يريد إثبات تجسد الشهيد لتلك العبارة التي مثلت فلسفته ليس فقط خلال هذه الحرب بل ربما فلسفته للحياة خلاصتها... لماذا نخشى من إنسان مخلوق مثلي لا سلطة له علي... نحن بشر متساوون في كل شيء فلماذا نخاف من بعضنا... وكذا كان العم أمين لا يخاف من الموت ولا يهابه لأنه ليس سلطة بيد الإنسان يستطيع أن يستخدمها ضد الإنسان... بما يعكس إيمانه الباطني ذو الثقة المفرطة بأن الحياة والموت هما فقط بيد الله تعالى وحده. إيمانه بالله على هذا النحو هو ما أكسبه تلك الشجاعة المفرطة في المواقف المختلفة ومنها تلك المواقف ذكرها النقيب محمد الجرادي ، ولم أعد اتذكر منها سوى معنى حديثه معي: في احدى المرات كان العدو على هضبة الصيار وقريتها، ونحن على هضبة قرية الصيرتين... قام عدد من أفرادنا بمهاجمة العدو وحدث الاشتباك بالنيران المختلفة. ثمة أفراد منا ممن تقدموا لنقطة الشرج حيث الطقمين المحروقين أصيبوا بجروح خطيرة وبدؤوا ينزفوا. ولا تستطيع اي سيارة تمر لانقاذهم أو أفراد يمكن أن يصلوا لاسعافهم... لأن الممر الوحيد إليهم ممرا مكشوفا للعدو من السهل ضرب من يحاول العبور منه. فلم تستطع اي قائد أي طقم او سيارة اسعاف اخرى أو جماعة افراد المغامرة. (الله يرحمك يا عم أمين)... يجر نهدة ويستتلي ...تفاجئت يفتح باب سيارة الإسعاف السوداء وهو يقول (إيش اخاف من مخلوق ما سلطه الله علي) يقفز خلف مقود السيارة ... يربط مشدته بقوة .... بسم الله ...... انتم غطوا علي. انطلقت السيارة بسرعة جنونية ، مرت بالطريق المكشوف وضربوا عليه طلقة نفذت من الزجاج الأمامي للسيارة واستقرت أعلى رأسه بقليل جدا. وصل لمكان الجرحى وحده وقام بنقلهم إلى داخل السيارة واحدا تلو الآخر كانوا ثلاثة تقريبا... ومن جديد عاد بسرعة أكثر جنونية وظل يلعب بالسيارة حتى لا يستطيع القناصة التثبيت على ضرب السيارة حتى وصل إلينا وقام باسعافهم وتم انقاذهم... ولم تكن هذه هي المرة الأولى بل تكررت مغامرات مثلها كثيرا امامي. أيضا... من المواقف التي لا انساها له بعد أن ترك سيارة الإسعاف وانظم لصفوف المقاتلين أن العدو كان عندما يهاجمنا من جهة منفذ علفقة الذي يفصل هضبة الصيار عن صدر الجبل وهو منفذ خطير لو اخترقه العدو تتسلل منه ممكن يسقط الموقع كله وتقع خسارة في اوساطنا كبيرة. وكانوا العدو يقصف من هضبة أو تبة المنية على أفرادنا... فلا يستطيع أفرادنا مغادرة المتارس للتزود بالذخيرة ولا يستطيع الإمداد إيصالها للمتارس وكم من مرة هنا يقفز العم أمين ... وانت كنت موجودا معنا ذات مرة وشاهدت بنفسك (يخاطبني)... فيأخذ الصفائح الرصاص ويقول ... هاتوا ... انا باوصلها.... إلا تخاف ياعم أمين... فيكرر عبارته...ليش أخاف من مخلوق مثلي... كثير مرات كان يأخذ ( الشيكي - بورغنيف) ويقوم بإسناد خطوط الدفاع وصد هجمات عنيفة... رغم كبر سنه وضعف بنيته وبه مرض السكر. *** في التاسع والعشرين من شهر مارس المنصرم وبينما كان العم أمين قرب تبة الاقيوس المطلة علي أودية مديريتي الصلو وخدير ينفجر لغما أرضيا زرعته مليشيات الموت والدمار والخراب الحوثيعفاشية ليرحل مخلفا وراءه حكايات مثيرة ورائعة تلخص سيرة منقذ الجرحى وعم الابطال أمين الحمادي. لا شك أن خلف كل شهيد أنقذ جثته بجبهات القتال قصة وخلف كل جريح أنقذ حياته من خطوط النار قصص. ومع كل المواجهات التي حظرها حكايات وتلك القصص ستبقى في ذمة من يعرفها ولم يسجلها ويوثقها. ولا شك أن للعم أمين الحمادي قصة تصلح أن تكتب وتدون لأنها تعكس قصص آلاف الرجال الذين خرجوا من بيوتهم للمشاركة في هذه الحرب من أجل كرامتهم وأعراضهم ومستقبل وطنهم. الشهيد أمين الحمادي الذي استشهد في جبهة الصلو... تاركا خلفه ثمانية من الأبناء أكثرهم رمزي هناك في جبهة ميدي لذاته الهدف الحامل للقضية الوطنية الكبيرة في استعادة، وبناء دولة يمنية اتحادية وطن جديد يستوعب كل اليمنيين. إن دم العم أمين الذي استكب فوق صخور وامتزج معتجنا مع تراب جبل الصلو إنما هو من أجل مستقبل اﻷجيال فوق هذه الارض الطيبة . من دمه الارجواني، وبقية شلالات دماء شهداء اليمن يتكون ذلكم النهر الكبير الذي يجب أن ترتوي منه أشجار الحرية وجذور الكرامة ، وعروق الانعتاق، ودروب التغيير لمعانقة مستقبل تأخر كثيرا، وآن الوقت لأن يكون عليه هذا اليمن الحبيب الباحث عن حقه في عيش الحياة وفق شروطها الطبيعية حتى في حدها البسيط.
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص