حالة شجن.. سردية الوقوف بين شفق الأحلام وغسق الظلام رواية لأحمد رجب شلتوت .... محمد الغربي عمران

بين يدي رواية قاهرية بامتياز. رواية تصور المجتمع المصري في حالات مختلفة "حالة شجن" للصديق أحمد رجب شلتوت. وهي الرواية الفائزة بجائزة إحسان عبدالقدوس لعام 2008. والصادرة عام 2019. لا أعرف لماذا تأخرت طباعتها أكثر من 11 سنة. الكاتب يدون في آخر صفحاتها "أبو النمرس من 15-5-1999 إلى 19-3- 2000". ما يثير تساؤلاتي. فلا ربط بين تلك التواريخ ببعضها البعض. قد يكون هنا خطأ طباعي ما.
"حالة شجن" رواية حولتها إلى ورق، ليكون لي هوامش أطرح ملاحظاتي عليها. وأولى ملاحظاتي، أنها تناقش محورا مهما تعاني منه المجتمعات البشرية، وعلى وجه الخصوص أقطارنا العربية. تفشي البطالة واستشراء الفساد. الكاتب أختار ملعب أحداثه "أبي النمرس" بالقرب من القاهرة أو على مشارف أطرافها. وهي بيئة اجتماعية يعرف خباياها، ليرصد بعين الفنان تلك الآفات التي تكالب حتى على حملة الشهادات الجامعية. كما تتناول الرواية ثيمات أخرى، منها: الهجرة.. المحسوبية، بطش الشرطة، تدهور الوعي بين أوساط المجتمع، وضع المرأة المتردي. تدهور التعليم والصحة... الخ.
الرواية رغم بساطة منطق شخصياتها، وتلك الاحتياجات العادية التي يحلمون بتحقيقها، إلا أن أنها موئل رفض مستقبلي، وجمر تحت الرماد لتغيير كل شيء إلى الأفضل
"حالة شجن" ترسم ملامح مجتمع يئن منذ عقود طويلة من أوضاع قاسية، فالبطالة تطحن الأكثرية. وما ينتج عنها تداعيات في الأوساط الاجتماعية، العشوائية، التفكك الأسري، تفشي البلطجة، ثراء طبقة على حساب عامة الشعب، الصراعات الاجتماعي على بقايا الموائد.
شلتوت بدأ روايته بمشهد حواري بين أم وولديها جمال ومحمد، صابّة جام غضبها على إهمالهم للروابط الأسرية، وعدم استمرار رعايتهم لشقيقاتهم، كما كانوا في سابق عهدهم. تدعمها في ذلك والدتها. ليرد عليها أكبر أولادها "جمال" بتبريرات ضيق ما في اليد، خاصة وكل منهما مسؤول عن زوجته وأولاده. أثناء ذلك النقاش، تلحظ الأم توغل الليل دون عودة ابنها الاصغر "غريب". لنعرف بأن غريب يعمل بائعا متجولا حاملا كرتون سلعته من سوق إلى آخر، ليتجه مسار الحوار بين الأم وابنيها نحو قلقها على الغائب. أنتصف الليل وكل من في البيت في ترقب، لكنه لم يعد كعادته، ما زاد قلق الأم التي تتمنى عليهم الخروج والسؤال عنه بين زملاء مهنته.
ينتقل الكاتب بسرده لما يتعرض له الباعة الجائلون من قبل رجال الشرطة من ملاحقات ومصادرة سلعهم البسيطة. وزج بعضهم في التوقيف. واصفا هيئة غريب حاملا كرتون رص بداخله كؤوسا زجاجية، مجسدا لشباب كثر نراهم يجولون بما يحملون، عارضين سلعهم، مروجين بكلمات بسيطة لاستمالة مشتر محتمل، على عربات النقل العام والمحطات العامة. غريب العائد من السعودية بعد سنوات من الغربة، عاد بسبب تعنت الكفيل واستغلاله له، لكنه بعد عودته لم يجد عملا غير التجوال بكرتون الزجاج يحمله من الصباح الباكر وحتى أول الليل. يعود باسطا بين يدي والدته جنيهات قليلة وحكايات كثيرة يجمعها من الأرصفة وبين الزحام.
ينتقل الكاتب بعد ذلك بالمتلقي، ليتعرف على رب الأسرة الوالد "أحمد منصور" رجل مسن، تقاعد بعد مشاركته متطوعا في الجيش الذي خاض حروب مصر من الاستنزاف 67 إلى العبور 73. ثم ينتقل مرة أخرى شارحا تفاصيل من حياة "غريب" الخارج من خطب فتاة فاشلة، بعد مرور سنة ونصف، لم يستطع إتمام زواجه لضيق ما في اليد.
تلك النقلات السردية لم تأت خارج السياق، بل مثلت قفزات فنية محسوبة بدقة، وبها يتعرف المتلقي ويرى من عدة زوايا وضع مجتمع يعيش على الهاوية. يلهث كل أفراده ليس من أجل ترف الحياة، بل لتوفير لقمة عيش بسيطة.
مع الفجر ينطلق جمال وشقيقه محمد، كل في اتجاه بحثا عن غريب. بينما كان كل من في البيت في ترقب، يساندهم الجيران بالأماني الطيبة. أستمر الكاتب بنقلاته الرشيقة يضفر حكايات أفراد تلك الأسرة بمهارة دون انقطاع أي خيط. يرصد تنقل "محمد" بين أقسام الشرطة والمستشفيات. وكذلك من في الإتجاه الآخر "جمال" من قسم: الجيزة إلى إمبابة والورّاق. ومن ثم المناشي والقليوبية والحوامدية والبدرشين، إلى القناطر وبهتيم وأشمون، وإلى العياط وقسم الصف وأطفيح وبنها وحتى طنطا والمنصورة. والعودة إلى الأزبكية وقصر النيل...الخ تلك الأقسام والمستشفيات.
لكنهما يعودان دون أن يجدوا غريب. أثناء سرد بحثهم تذهب بجمال ذكرياتها إلى سنوات الدراسة الجامعية، يرى زميل الكلية "مرعي" ذلك الشاب الحالم والمتمرد، وقد تماثل معه في حب الاطلاع بقراءة الكتب. مرعي الذي كان يتوقع يوما أن يجده وقد أصبح ذا شأن في مجتمعه، لكنه يصدم حين يلتقيه أثناء بحثه عن أخيه، ولم يعد من ذلك المتمرد إلا بقايا كائن محطم. يستمع إليه وهو يشكو الزمن: زوجني أبي بزوجة أخي المتوفي، "فمن يرعى أبناء أخوك.. هل تتركهم للغريب...". ومن يومها أعيش لأرعى.
بعد عودة الأخوين من بحثهم، تعددت الشكوك حول اختفاء غريب. فمنهم يقول إنه في قبضة البوليس. ومنهم من يتهم عائلة خطيبة غريب السابقة باختطافه. وآخرون يرجحون أنه لقي حتفه في مشاجرة كثيرا ما تحدث بين تجار الأرصفة. سأل الأخوين بعض زملاء مهنة غريب. كما لجأوا لأصحاب نفوذ، لتنتهي الرواية بالعثور عليه في أحد الأقسام التي سبق وأن زارها جمال، إلا أن القائمين عليها لم يفيدوا، بل ولم يسمحوا له بزيارة غرفة التوقيف أو يكلفوا أنفسهم بالبحث في سجلات الوارد والمنصرف. وقد تعاملوا معه باستهتار، وكأن كل قادم إليهم لا يستحق حتى سماع تساؤلاته.
هذه الرواية تفضح ضياع الحقوق، والاستهتار بكرامة الإنسان، من قبل رجال الشرطة. كما تفضح أساليب التعامل مع القُصر، والتصرف غير القانوني مع أي مواطن يصل إليهم. كما يشاع الاعتداء على من يصل إليهم بالضرب والشتم والإهانات وكأنها جزء من مهامهم تجاه أي شاكي أو متهم.
بعد أن وجدوا غريب. رفض مأمور القسم إطلاق سراحه، بل وهددهم إن لم ينصرفوا بحجزهم، وبلجوئهم إلى أحد وجهاء المنطقة، تم إطلاقه دون قيد أو شرط. بل وقام من في القسم بواجب ضيافتهم بالمشروبات الساخنة، كل ذلك احتراماً للوجيه.
فساد أقسام الشرطة ظاهرة مستوطنة. صوّر لونها الكاتب بتفاصيل مخيفة، فبمجرد اقتراب جمال من بوابة تلك الأقسام ليسأل حتى يتلقى سيلا من كلمات الصدود واللامبالاة، رغم إعاقة أحد ساقيه. وقد أتكأ على عكاز يساعده على السير. ليرى ما يعتمل على قفى صبيان لا يعرف جرمهم، من خطوا إلى داخل تلك الأقسام.
novel
الرواية جسدت الظلم الذي تمارسه أجهزة الأمن على المواطن
عم خلف في قسم الجيزة، عم بدوي في المشرحة، عم حنفي في قسم القناطر، المعلم عاشور في الوراق، تلك الأسماء ينصح الاستعانة بها أثناء البحث. ومعظمهم يقبعون على هامش تلك الأقسام، حين يشير على من يسأل الحراسة أن يذهبوا إليهم ليسألهم حاجتهم. وكأن الشرطة يعيشون في أبراج خارج نطاق أقسامهم، مشيرين على من يسأل بترفع إلى العم "....". وهكذا لكل قسم عم. كائن طيب يسعد لمساعدة غيره. يجيب عن استفساراتهم بطيب خاطر. وكأن الطيبة مذمة لا يجب أن يتحلّى بها عسكر تلك الأقسام.
تلك الشخصيات شكلها الكاتب بعيني وإحساس مبدع، فجمال الأخ الأكبر معاق يتكئ على عكاز، مثقف وأكثر وعيا بين أبناء محيطه، هكذا بدأ بتعامله وحواراته وذكرياته في الجامعة، خاصة مع زميله "مرعي" الذي كان يماثله وعيا وثقافة وتطلعا لغد أكثر إشراقا.
الأب أحمد منصور رجل وطني. قدم أجمل سنوات عمره كمتطوع في الجيش وشارك في جميع حروب مصر، ليتحول في سني تقاعده إلى شخص ساخط ومتذمر من أوضاع البؤس والحاجة.
الأم.. الرامزة إلى مصر بحرصها على أفراد أسرتها، وحثهم على التكاتف والتجمع في وجه الشدائد. تبكي لأقل شعور بالغبن، وتنشر الفرح فيمن حولها لأبسط مناسبة مثيرة للبهجة بعاطفتها وحبها غير المنقوص.
صور شتى أجاد الكاتب تشكيلها. منها لحظات تنقل جمال وابن حيهم عنتر من قسم إلى آخر ومن مستشفى إلى مستشفى بحثا عن غريب. ووصف التفاصيل الصغيرة من حوارات إلى عنف غير مبرر. حتى مشهد عودتهم بدون غريب ليتقاطر أبناء الجيران من نساء ورجال لمواساتهم. عبارات عطوفة تطمن الأم من أن الله سيعيده لها. ثم يوم عودة جمال ومحمد بشقيقهم غريب ليتحول بيتهم رغم ضيق الحال إلى مهرجان فرح بتوافد الجميع للمباركة. هي لوحات من السعادة والفرح يرسمها المجتمع ليعبر عن تعاضده.
الرواية جسدت الظلم الذي تمارسه أجهزة الأمن على المواطن، خاصة أبناء الطبقة الدنيا.. وكأن فقرهم تهمة. وضيق ما في اليد عار وإدانة. كما جسدت تماسك الأسرة المصرية، وحالة الرفض للأوضاع، وكمون بذور الثورة في النفوس على كل ما هو شائن. إضافة إلى تعلق الجميع بفجر قد يبزغ في أي لحظة بالغد والحرية.
رواية شلتوت التي تستفز القارئ لأوضاع شائنة رسمها بعين الفنان. تلك الأوضاع لا تقتصر على المجتمع المصري، بل هي أوضاع عامة تشترك فيها أقطارنا العربية ودول أخرى حول العالم بدساتيرها المنقوصة التي فصلت على مقاس طبقات أو فئات وشخاص أوجماعات. فلا دستور من تلك الدساتير يحمي كرامة المواطن، أو يحفظ له حقوقه. ولا تجرم حضور الجماعات الدينية في السياسة. ولا توجد مواد تمنع تكوين أحزاب على أسس دينية. فدساتيرنا للزينة لا تساوي بين المواطنين في الحقوق والواجبات، ولا تحمي الحريات والتنوع والسلم الاجتماعي.
هذه الرواية رغم بساطة منطق شخصياتها، وتلك الاحتياجات العادية التي يحلمون بتحقيقها، إلا أن أنها موئل رفض مستقبلي، وجمر تحت الرماد لتغيير كل شيء إلى الأفضل، لنصل إلى انتخابات بقواعد سليمة، فلا تطاحن بين العسكر والجماعات الدينية، بل نظام مدني عموده المواطن على أساس حقوق وواجبات متساوية.
تنتهي الرواية؛ وقد قرر غريب أن يهاجر مرة أخرى خارج مصر. فكرة الهجرة فكرة تقارب للانتحار. فكثيرا ما ينتهي من يركب البحر في بطون الأسماك. لكن دعونا نتخيل وقد فُتحت أبواب الهجرة الآمنة، فهل سنجد من يبقى في أقطارنا العربية. أرى الجميع يهاجر إلى الدول الديمقراطيات. ولن يبقى أحد خاصة من الشباب. أتخيل أن أوطاننا ستفرغ. سيرحل الجميع إلى أوطان الحقوق والحريات. ومنها الحق في العمل والرعاية. فما بالنا بالتعليم الحقيقي، الصحة،... الخ.
رواية تقودنا إلى أن نفكر ونفكر كثيرا في أوضاعنا، في أزمتنا، في غدنا، في رفضنا لكل ما يسيء إلى إنسانيتنا. أم أننا الحلقة المفقودة في سلسلة داروين. سنظل نحلم دون أن نخطو خطوة واحدة نحو تحقيق إنسانيتنا؟!
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص