حوثيون.. ويمنعون الماعون
في ظل الظروف الصعبة التي يعانيها اليمنيون منذ استيلاء المليشيات الحوثية على عاصمة الدولة اليمنية والعديد من المدن، يعتبر شهر رمضان فرصة سنوية ينتظرها ملايين الفقراء والمحتاجين بفارغ الصبر، رغم أن الصدقات التي يحصلون عليها لا تسد عوزهم ولكنها تخفف قليلاً من مأساتهم ولأيام محدودة. إلا أن الحوثيين وإمعاناً منهم في تجويع الشعب اتخذوا إجراءات لحرمان هؤلاء الفقراء من هذه الصدقات البسيطة، حيث ضاعفت الجماعة زكوات الأموال على التجار إلى ما يصل لـ500 بالمائة، وعاقبت بعض التجار الذين وزعوا صدقات على أسر محتاجة. علماً أن شريحة المحتاجين، ارتفعت في السنوات الماضية أضعافاً مضاعفة، إذ انضمت إليها شرائح اجتماعية كانت مستورة الحال كالأكاديميين والموظفين والكثير ممن فقدوا مصادر دخلهم من مصالح خاصة أو مرافق حكومية تعطلت منذ انقلابهم المشؤوم. 
 
وبدلاً من أن يقوم الحوثيون بصرف مرتبات في هذا الظرف العصيب وهذا الشهر الفضيل، أمعنوا في مفاقمة الجرح بحرمان هؤلاء من الصدقات، وبالتالي فهم لم يرحموا الناس ولم يتركوا رحمة الله تنزل عليهم. وهذا الأمر ليس بمستغرب على هذه الجماعة، لدى من يعرف تاريخ التيار الذي تمثله، وهو تيار الإمامة الهادوية الذي حكم شمال البلاد في فترات متقطعة منذ نحو ألف عام، واقترن ذكره بثلاثية "الفقر والجهل والمرض"، وذلك لاعتماده أساليب متكررة من الإفقار والتجهيل والإهمال، طيلة نسخات حكمه، ولعل أشهرها في التاريخ الحديث، ما حدث في أربعينيات القرن الماضي، أيام المجاعة الشهيرة التي احتاجت أخصب محافظات اليمن وأكثرها إنتاجاً للغذاء (يومذاك)، وهي محافظة إب، حيث قضت المجاعة على الآلاف من سكان المحافظة، لم تستطع مقابر المدينة استيعابهم، ولم تكن المجاعة بسبب قحط ولا جدب، بل بسبب قيام سلطات الإمام بمضاعفة الزكوات على الفلاحين الذين كانوا يموتون جوعا بينما الحبوب كانت تتراكم وتتعفن في مخازن ومدافن الأئمة.
 
 وقد تكرر الأمر من قبل الحوثيين حينما سطوا على المساعدات الإغاثية ووضعوا عراقيل أمام توزيعها، حتى تعفن العديد منها في مخازن وصوامع عديدة، ولا عجب أن قاموا بتوزيع بعضها منتهية الصلاحية لاحقاً. وذلك عدا عن تحويلهم للعديد من هذه المساعدات للجبهات كـ"مجهود حربي"، واشتراط ما يوزع منها لمحتاجين بمطالبة الأسر إرسال أبنائها للقتال في صفوف الجماعة. 
 
والواقع أنه لولا شريحة المغتربين اليمنيين خارج البلاد، وخصوصاً في السعودية، تلك الشريحة التي ما تزال تعول وتواسي الملايين من أبناء الشعب، لكانت الكارثة أدهى وأمر.. وقد سمعت من السفير الأمريكي السابق ماثيو تولر، قبل نحو عامين، كلاماً يعبر فيه عن اندهاشه لمستوى التراحم والتكافل بين أبناء الشعب اليمني، وبأنه لولا هذا التكافل لكانت المأساة اليمنية أكبر، ولكان النزوح باتجاه الدول الأخرى أعلى بكثير.. 
 
لكن الحاصل اليوم أن الحوثيين أقدموا على سنّ إجراءات غاشمة تحدّ من هذا التكافل وتعمل على محاصرة آليات التراحم، فمثلما استولوا على مدخرات البنك المركزي (البالغة أكثر من ٤ مليارات دولار) وإيرادات الاتصالات وشركات ومصانع القطاعين العام والمختلط وإيرادات الجمارك والضرائب والزكوات في مناطق سيطرتهم، دون أن يصرفوا منها مرتبات الموظفين، عملوا كذلك على الاستيلاء على المئات من جمعيات العمل الخيري تحت دعاوى متعددة، وقاموا بمضاعفة الجمارك على التجار واستحدثوا نقاطاً جمركية جديدة أسهمت في رفع الأسعار، جنباً إلى جنب مع التأثير الكبير الذي تركه تراجع سعر العملة المحلية أمام الدولار، قبل أن يعزز الحوثيون إجراءاتهم الغاشمة بمنع تداول العملة الجديدة في مناطق سيطرتهم، الأمر الذي أوجد سعرين مختلفين للعملة المحلية يتحمل المواطن رسوم الفوارق بينها. وينضاف كل ذلك، لإجراءات أخرى موازية تعمّق مأساة الناس، منها إحياء "زكاة الخمس"، التي يعتبرونها حقاً حصرياً لهم.
 
لم يكتفِ الحوثيون بذلك، بل أطلّوا في هذا الشهر الكريم، كما أسلفنا، بجملة إجراءات تسعى لتجفيف منابع الصدقات، عمّقت جراح المساكين ووسّعت رقعة المعاناة، علماً أن شريحة المحتاجين داخل اليمن، كانت كبيرة حتى قبل الحرب وقبل انقلاب الحوثي، وكان الراتب الحكومي بالكاد يسد الاحتياجات الأساسية للموظفين ولا يوفر لنسبة كبيرة منهم، المسكن والملبس والاستطباب اللائق بهم وبأولادهم، فكيف هو الحال اليوم وقد صار الموظف في مناطق سيطرتهم يتمنّى عودة المرتب السابق ولو كل شهرين او ثلاثة، رغم تراجع القوة الشرائية للعملة الوطنية إلى ما يقارب من خُمس قيمتها قبل الانقلاب 2014.
 
لماذا يفعل الحوثيون ذلك؟ أليس من مصلحتهم أن يكسبوا ود الشعب اليمني بالعمل على تقليل معاناته بما يثبّت سلطتهم الانقلابية ويحسّن قليلاً من وجههم القبيح؟ الحاصل كما أسلفنا أنهم امتداد لتيار يتخذ من الإفقار نهجاً. أضف إليه أنهم يتصرفون بذهنية من يدرك أنه لن يبقى في السلطة طويلاً، فهو يسرق أكبر قدر ممكن. والسبب الثالث يتمثل أن في الحوثي لديه اعتقاد أن سياسة التجويع والإفقار هي السبيل الأمثل لتحاشي ثورة الشعب ضده، بحيث يصبح همّ المواطن البسيط، الحصول على كيس من القمح يعول به أسرته ولو مقابل الذهاب بأحد أبنائه للقتال مع الحوثي أو حتى حضور فعاليته التعبوية. يريدون أن يكون الشعب اليمني خائر القوى منزوع الكرامة، همه الأكبر ما يسد رمقه. 
 
ووفقا لورقة عمل قدمها الصحفي والحقوقي همدان العليي في مجلس حقوق الإنسان بجنيف قبل عامين، فإن الحوثيين يقومون بتجويع اليمنيين لتحقيق أهداف عدة سياسية وطائفية وعسكرية. موضحاً بأنهم أوصدوا كثيرا من أبواب الرزق، لكنهم في المقابل فتحتوا باب التجنيد والالتحاق بالجبهات كخيار وحيد لكل من فقد مصدر دخله. أما الهدف السياسي فناجم عن حرص مليشيات الحوثي على "صناعة وضع إنساني صعب يدفع المنظمات الدولية للتدخل وفرض إيقاف عمليات تحرير المدن كما حدث في محافظة الحديدة".
 
وجاءت جائحة كورونا مؤخراً، لتضاعف هذه المأساة، حيث اجتمع لهيب الحرب مع شظف العيش مع إجراءات القمع وتجريف الهوية، مع الخوف على الحياة من الأوبئة التي تتكاثر بلا رادع. ولقد شاهدنا في الأسبوعين الماضيين، تسجيلات مصورة لعمليات دفن في مقابر صنعاء، تتم بطريقة سرية لضحايا كورونا الذي يتكتم عليه الحوثي ويتعامل مع المصابين وكأنهم عار ينبغي غسله بصمت، وبعد أن انتهى موسم الجبايات اعترفت العصابة (الوباء الكهنوتب) وبشكل خجول، بانتشار الوباء.
 
في مقابل كل هذا الإفقار الحوثي الممنهج، يلحظ المواطن اليمني البسيط آثار النعمة التي بدت على فئة المشرفين التابعين للحوثي، حيث انتفخت كروشهم وتورّدت خدودهم وتطاولت بناياتهم، وصار الناس يعبرون عن هذه المفارقة بطرق عدة، لا يخلو بعضها من السخرية اللاذعة. 
 
كل هذا يثبت أن سلطة الحوثيين هي مجرد سلطة إرهابية تمارس الجباية وتمتص هذا الشعب وتزج به في أتون الحروب وتتستر على انتشار الأوبئة، ثم تفرض على الناس إتاوات باسم المجهود الحربي والمولد النبوي وغيرهما، وتتفاخر في الوقت نفسه، أنها تقدم تبرعات لحزب الله الإيراني في لبنان!
 
هذه الجماعة هي أكبر مصيبة حلت على اليمنيين، وأكثر وباء أصاب هذا البلد الكريم، وهذا ما يوقنه المواطن اليمني البسيط يوماً بعد يوم، ولا شك بأن مثل هذه التصرفات وغيرها، تُراكم حالة الاحتقان لدى المحتاجين ورجال الأعمال على حد سواء، ولابد لهذا الاحتقان أن ينفجر وبقوة، في وجه هذه العصابة.
 
. رئيس مركز نشوان الحميري للدراسات والإعلام
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص