عــنــف الــــديـــكـــتــــاتــوريـــة

يمثل ستيفان زفايج صفحة عبقرية في تاريخ الأدب العالمي سواءمن حيث قدراته الفنية التي لا يخبو بريقها أومن حيث حياته التي انتهت نهاية مأساوية، فقد قرر عام 1942 وكان قد تجاوز الستين أن ينهي حياته وشاركته قراره المؤسف زوجته الشابة التي تجاوزت الثلاثين بقليل، فابتلعا قدرا كبيرا من الحبوب المنومة، وأعطى قبل ذلك كلبه كمية من تلك الحبوب. كان زفايج يخشى انتصار النازية الألمانية على أوروبا وما سيعقب ذلك من تدمير القيم الانسانية، وكان قبل انتحاره قد نشر كتابا بعنوان " ضمير ضد العنف" ترجم إلى العربية باسم"عنف الديكتاتورية"عالج فيه تصدي ضمير الانسان الفرد الأعزل للديكتاتورية المسلحة.

يقول زفايج في كتابه: " لابد للحرية من سلطة وإلا أمست فوضى، ولابد للسلطة من حرية وإلا أصبحت طغيانا". والواضح أن السلطة في أمريكا تكشف عن وجه الطغيان الكامن فيها، وحسب ما نشرته أسوشيتد برس فإن عدد المعتقلين في مظاهرات الاحتجاج الأمريكية على مقتل جورج فلويد وصل إلى أكثر من عشرة آلاف، مما يستدعي مراجعة المفهوم الأمريكي للحرية والديمقراطية الذي يرتكز على أوهام الديمقراطية الشكلية التي تقوم على وجود برلمان وعدة صحف معارضة ونشاط بعض الأحزاب مع دستور تمت صياغته ببلاغة لغوية، والمفترض خلال ذلك أن أجهزة الدولة من شرطة وغيره تقوم في تلك الديمقراطية بدور الحكم المحايد في أي صراع اجتماعي. في أمريكا توجد كل مظاهر تلك الديمقراطية، دستور وصحف وأحزاب وقنوات وكل شيء آخر حلاوة وديمقراطية، وبالطبع فإنه ما من حرف واحد وما من قانون في بلد الحريات يسمح بسحل المتظاهرين في الشوارع والزج بعشرة آلاف منهم الى السجون.

إلا أن ذلك البطش يعري أمامنا الأوهام الديمقراطية، ويبين أن الدساتير تحتوي عادة على أروع الحقوق لكن على الورق، أما في الواقع فإن الأمر يختلف تماما. على سبيل المثال فإنه من حق كل مواطن أمريكي دستوريا أن يترشح للرئاسة، ولكن فعليا لا يتمتع بذلك الحق إلا من كانت جيوبه محشوة بالملايين لتغطية الدعاية الانتخابية أو كانت تقف خلفه شركات كبرى.

دستوريا من حق كل مواطن اصدار صحيفة، فعليا يتمتع بهذا الحق فقط من معه المال الكافي لذلك. دستوريا ونظريا المواد كلها تساوي بين المواطنين لكن فعليا وعند تفسير أي مادة فإن أقسام الشرطة والمحاكم تنحاز إلى الأقوى. وحتى لو افترضنا أن ذلك النوع من الديمقراطية لا ينقصه شيء، فسوف يبقى أن تلك مجرد ديمقراطية سياسية لا أكثر. وما نفع الفقير من مساواته سياسيا بالأغنياء في الدستور؟ وما فائدة تلك الديمقراطية ان كانت تخفي تفاوتا اقتصاديا مرعبا بين دخول المواطنين؟، وطالما بقي التفاوت الاقتصادي فإن كل الأشكال الحقوقية التي تدعي تمثيل الأغلبية تظل حقوقا من ورق، وما إن تحين ساعة الجد ويقع الصراع حتى تلقي الدولة بكل ذلك الهراء الديمقراطي خلف ظهرها وتدفع إلى الشوارع بقوات الشرطة لسحل المتظاهرين في مختلف المدن الأمريكية، وحينئذ يرى الجميع أن الشرطة ليست كما يدعون جهازا محايدا لفض النزاعات، بل جهازا قمعيا لصالح طبقة تتناقض اهتماماتها مع مصالح الأغلبية.

وقد شهدنا في مختلف دول العالم بما في ذلك فرنسا وروسيا وغيرها الدور القمعي الذي يتزين بالديمقراطية وبحقوق الانسان، وتابعنا عشرات الاحتجاجات الشعبية التي تدخل فيها رجال الشرطة والجيش أحيانا لتحطيم الاضرابات أو كسر المظاهرات، لكننا لا نعرف حالة واحدة تدخلت فيها الشرطة لمحاسبة أصحاب المصانع حين يسرحون العمال أو لا يدفعون لهم أجورهم أو يأكلون حقوقهم. إن ما يجري في أمريكا أمر سوف يحسمه المواطنون هناك، لكن ما يهمنا هنا هو مراجعة الخواء الكامن وراء المساواة السياسية النظرية التي يستند إليها مفهوم الحرية الأمريكي.

في كتابه يحدد ستيفان زفايج قطبي الصراع حول قضية الديكتاتورية قائلا : " التسامح ضد اللاتسامح، الحرية ضد الوصاية، الانسانية ضد التعصب، وكل هذه التسميات تعبر عن قرار شخصي،أيهما الأهم بالنسبة لكل فرد:الانساني أم السياسي؟ الفردي أم الجماعي؟". ومازال ماكتبه ستيفان زفايج عن عنف الديكتاتورية صالحا للقراءة بعد نحو مئة عام من كتابته. 

د. احمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص