ابراهيم الحمدي نقطة الضوء نقطة الالتقاء (3-3)
كانت صحيفة الجارديان البريطانية قد اطلقت على القائد الرمز ابرهيم الحمدي أكثر من صفة منها : رجل التوازنات الأستراتيجية في الشرق ، وعبدالناصر جديد في الوطن العربي ، هذه الصفات لم تُطلق جزافًا ، لقد كان أداء الدبلوماسية اليمنية في زمن الحمدي في أفضل الأحوال وكان القرار الوطني هو اقامة علاقات دبلوماسية متوازنة بعيداً عن المحاور والصراع الدولي الناجم عن الحرب الباردة وتقاسم العملاقين الأمريكي والسوفييتي للنفوذ في العالم ، فزار فرنسا والصين وشارك بفعالية في قمة عدم الانحياز وفي القم العربية حينها في الجزائر والرياض ، وكانت مصلحة الشعب اليمني هي الترمومتر الذي يقاس عليه مدى تطور العلاقات مع تلك الدول ، دون أن تُرتهن الإرادة الوطنية لهذا الطرف أو ذاك ، لم يكن الحمدي عكس من كان قبله أو من جاء بعده من الحكام يستجدي الدعم والمساعدات ، كان يضع نصب عينيه الاعتماد على الذات مهما كانت متواضعة فيعمل على تطويرها وتنشيطها ، كان يتحسس تمامًا من حكام الخليج عندما يصطحبون معهم وزراء المالية فيستبق ذلك بمعرفة اذا ما كان الضيف سيأتي ومعه وزير ماليته ضمن الوفد أم لا ؟ واذا أكدوا له في المراسم أن وزير المالية ضمن الوفد هنا تأخذ الزيارة منحًا آخر فيصر على عدم حدوث جلسة مفاوضات رسمية بين الجانبين لمعرفته المسبقّه انهم سيقدمون دعمًا لليمن ، حدث ذلك أثناء زيارة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان إلى اليمن صيف 1976م فأخذ يماطل ويسوف حتى انتهت مدة الزيارة دون اجراء مباحثات رسمية تنبه الشيخ زايد وشعر أن الحمدي يتعمد عدم إجراء مباحثات رسمية فسأله عن السبب وكان رد الحمدي عليه لقد علمت بوجود وزير المالية ضمن الوفد واعرف ان ملوك الخليج عندما يصطحبون وزراء ماليتهم فلابد ان يقدموا الدعم المالي ونحن لا تسمح عاداتنا واخلاقنا أن تكونوا ضيوفًا علينا وتعطونا المال ، هذا الأسلوب في التعامل الذي يحفظ كرامة البلاد وشعبها كان متبعً مع كل الدول الأمر الذي اكسب الرجل التقدير والاحترام لدى زعامات العالم وقادتها ، المتعارف عليه قبل وصول الحمدي إلى سُدة الحكم هو أن المنظومة السياسية من وزراء وحكام وبرلمانيون ومشائخ وكبار الضباط والقادة العسكريين ، كانت منظومة فاسدة مرتهنة للخارج ، وما قصة الرشى التي قامت السعودية في عام 1971م بدفعها لأعضاء مجلس الشورى برئاسة الشيخ الأحمر للتصويت على إنهاء خدمات شركة " سوناطراك " الجزائرية التي اكتشفت كميات تجارية من الغاز والتي كشفها النائب الشريف الوطني المرحوم يوسف الشحاري إلا دليل على ذلك ، الحمدي غيّر صورة اليمن أمام العالم بإخلاقه ونهجه الوطني وسلوكه القويم ،في ذلك السياق التاريخي كانت مرحلة إعادة التموضع السياسي لليمن ودورها الحضاري ، فكانت القمم التي قدمت للعرب قيادة قومية قادرة على إحداث الفعل القومي ، قمة الرياض في 1976م كانت بالفعل قمة ابراهيم الحمدي بامتياز في تلك القمة كان دور الرئيس الحمدي يتصدر المشهد فقد استطاع في تلك القمة أن يصلح ذات البين بين عشرة انظمة عربية متصارعة ، أثناء القمة طلب حسين من السفير الأردني في الرياض تنظيم لقاء ثنائي مع الرئيس الحمدي كانت الساعة الثانية عشرة ليلاً ذهب السفير الأردني إلى مقر اقامة الحمدي وتحدث مع الوفد المرافق له طالبًا منهم اللقاء بالرئيس فأبلغوه أن الرئيس مشغول لأنه في اجتماع مطّول مع القيادتين السورية والعراقية بهدف المصالحة بين البلدين ، فعاد السفير إلى الملك ليبلغه بما جرى فما كان من الملك إلا أن طلب منه الرجوع لتأكيد الطلب بعد ساعة وهذا ما جرى بالفعل ليذهب ويرى الرؤساء الثلاثة ابراهيم الحمدي وأحمد حسن البكر وحافظ الأسد في اجتماع مغلق ، عاد إلى الملك ليخبره أن الرئيس اليمني لا يزال في اجتماع مغلق مع الرئيسين السوري والعراقي ، وهنا علق الملك حسين بالقول : الحمدي هذا الرجل لن يتكرر في التاريخ هذا فلته من فلتات الزمن العربي ، كلام الملك حسين نشر في مقال للسفير الأردني في صحيفة عكاظ السعودية عن القمة العربية ، وعندما حدثت الحرب الليبية المصرية في عام 1977 وكانت هناك الوساطات العربية من قبل الجامعة العربية والسيد ياسر عرفات وعبدالحليم خدام وزير خارجية سوريا في ذلك الحين كانت للحمدي جهوده الفاعلة والمؤثرة في اقناع القيادتين الليبية والمصرية بالتهدئة وقد ثمّن ذلك الزعيم الليبي معمر القذافي الذي اعتبر حينها دور اليمن مؤثراً في احتواء الصراع بين البلدين الشقيقين ، حتى فيما يتعلق بالنزاع بين المغرب والجزائر فيما يعرف بحرب الصحراء الغربية كان ابراهيم الحمدي قد بدء في التواصل مع القيادتين لتقديم رؤية يمنية لحل الصراع وتقريب وجهات النظر بين الجانبين ، انشغالات الرجل بالداخل اليمني لم تغفل اهتمامه عما يجري في المحيط العربي والاقليمي فقد كان لإبراهيم الحمدي اليد الطولى في منح جمهورية جيبوتي الاستقلال فبعد اندلاع المظاهرات الشعبية الحاشدة ضد الوجود الفرنسي في جيبوتي تواصل الرئيس الحمدي مع صديقه الرئيس الفرنسي الذي كان دائم الإشادة باراء الرئيس ورجاحة تفكيره حيث اجتمع الحمدي بالسفير الفرنسي في صنعاء وطلب منه نقل مخاوفه للقيادة الفرنسية بشأن أعمال العنف في دولة جيبوتي وأن لليمن جالية كبيرة في جيبوتي ولديها مصالح بدأت بالتضرر جراء المظاهرات التي تحولت إلى أعمال عنف ،وسلمه رسالة إلى الرئيس الفرنسي فاليري جيسار ديستان بهذا الخصوص ونصحه بالقول أن المظاهرات لن تتوقف ما لم تقم الحكومة الفرنسية بخطوات جادة انصح باعطاء جمهورية جيبوتي استقلالها وهذا ما حدث بالفعل . كانت رؤية الحمدي بعيدة المدى وتندرج في إطار الأمن العربي الإقليمي واخلاء البحر الاحمر من الأساطيل والقوات الأجنبية وهذا الدافع الذي حدى به إلى عقد مؤتمر دول البحر الأحمر الذي تحفظت عليه مصر وقاطعته المملكة السعودية يومها نشرت صحيفة الجارديان البريطانية عنوانً بارزاً في صفحتها الأولى (( ظهور عبدالناصر جديد في اليمن)) لقد كان الرئيس الحمدي ينظر إلى الأمن الوطني لليمن باعتباره جزءً لا يتجزء من الأمن القومي العربي وكان هو وحده صاحب مشروع قوات الردع العربي في لبنان للحفاظ على سيادة لبنان ووحدته وهويته العربية خوفًا وحرصًا عليه من المشاريع المعادية وكان على صلة وثيقة بالجبهة الوطنية بقيادة الشهيد كمال جنبلاط وتأثر الرئيس لمقتله باعتباره والقوى المتحالفه معه تشكّل حالة توازن ضد المشروع السعودي الأمريكي ، وكان الحمدي يطلق على السفير السعودي في لبنان حينها الجنرال علي الشاعر صفة رئيس جمهورية لبنان لدوره في إذكاء الخلاف و الشقاق بين فرقاء الحرب في لبنان حسب رؤيته لذلك ، القمة العربية وإصلاح ذات البين استقلال جيبوتي والتواجد في حلحلت الصراع الليبي المصري ، و مؤتمر أمن البحر الأحمر والعلاقات الوثيقة التي جمعت بين الحمدي والشيخ زايد والسلطان قابوس وهو الأمر الذي جعل الدولتين تعلن الحداد وتقوم بتنكيس الأعلام لمدة اربعين يومًا الأمر الذي أثار الهلع لدى المجموعة الإنقلابية الدموية ان ترسل اثنين من ضباط الاستخبارات لتسليم رسائل إلى قادة عُمان والإمارات لإثنائهم عن القرار موضحين وجهة نظرهم بأن اليمن اعلنت الحداد لمدة خمسة عشر يومًا في الوقت الذي اعلنتم الحداد لأربعين يومًا فإن هذا يعتبر تأكيداً للتهمة التي تفيد بأن القيادة الجديدة هي وراء اغتيال الرئيس الحمدي ، حينها تراجعت الدولتان عن مدة الحداد واعلنت عن خمسة عشر يومًا كما هو الحال في صنعاء ، لقد استطاع القائد ابراهيم الحمدي اتباع سياسة توافقية بين دول الثورة ودول الثروة علاقته بالشيخ زايد كانت على نفس الدرجة الوثيقة بعلاقته بالزعيم الليبي معمر القذافي ، وعلاقته بالرئيس حافظ الأسد كانت على نفس الدرجة من علاقته بالسلطان قابوس وهكذا بات من القادة التاريخيين في تلك المرحلة وأحد أهم صُناع السياسة في المشهد العربي ، هذه الحالة من التموضع هي التي جعلت العديد من الأقلام العربية ومن كبار الصحفيين والكتاب العرب يتقاطرون إلى صنعاء للقاء الرئيس والتحاور معه وهو الأمر الذي جعل الرئيس الحمدي يفكر في أن يكون لليمن مطبوعة جريدة دولية تصدر من العاصمة البريطانية لندن وكان الصحفي والكاتب العربي محمد عوده مقرراً أن يرأس تحريرها ، حينها علم الكاتب الشهير باتريك سيل بالأمر وتوجه إلى السفارة اليمنية في لندن التقى السفير وطلب التحدث مع الرئيس الحمدي قائلاً له أن اكتب مقال اسبوعي في صحيفة الحياة اللندنية وأستلم على المقال الواحد مبلغ الف وخمسمائة جنيه استرليني لكنني على استعداد أن اكتب في صحيفتكم مدى الحياة بدون أجر لكونك يافخامة الرئيس خليفة عبدالناصر في الوطن العربي ، موقف آخر حدث مع الصحفي حافظ خيرالله وكان يومها مديراً لمكتب مجلة الحوادث اللبنانية في بون ، طلب حافظ خيرالله زيارة اليمن بناءً على الحضور الطاغي للرئيس في المشهد العربي وعندما وصل إلى صنعاء ابلغ الرئيس الأستاذ أحمد دهمش بالذهاب إليه في تمام الرابعة عصراً والمجيئ به إلى القيادة ، لكنه شعر أنهم ربما يتأخرون عليه فذهب إليه بنفسه وأقله بسيارته الفلوكس فاغن واتجه بها إلى منطقة وادي ظهر ، واستمر اللقاء بينهم لمدة خمس ساعات حدثه الحمدي عن اليمن عن الممالك اليمنية القديمة وعن حكم الأئمة والكهنوت ، وعن وضعها في الزمن العثماني عن الدولة الرسولية والدول التي نشأت في ربوع اليمن ، لقد كان التاريخ حاضراً بقوة وهو ما جعله يصر على توحيد منهج التاريخ مع جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ، كما حدثه عن التحديات والمؤامرات التي تحاك ضد اليمن التي تعوم على بحيرة من النفط لكن هناك فيتو سعودي على منع اليمن من استخراج ثرواتها الطبعية مستنكراً السياسات العدائية الموجهة ضد الشعب اليمني ، عاد بعدها حافظ خيرالله وكتب مجموعة ملفات عن اليمن تحت عنوان (( من بون نقدم لكم اليمن)) وكان رئيس التحرير المرحوم سليم اللوزي على علاقة قوية مع النظام السعودي وتعرض للنقد من قبل السعوديين حينها وابلغ حافظ خيرالله بتلك الانتقادات معربً له عن مخاوفه بتوقف الدعم المالي للمجلة الذي يأتي من السعودية وأنه ليس أمامه إلا أن يعود إلى صنعاء للحصول على دعم مالي ، عاد حافظ خيرالله إلى صنعاء والتقى وزير الإعلام وابلغه رغبته في اللقاء بالرئيس ، استغرب الحمدي عودته السريعة وأنه يصر على اللقاء بالرئيس ، اثناء اللقاء نقل للرئيس مخاوف رئيس التحرير ، فهم الحمدي أن المجلة تحتاج إلى دعم مالي وهنا سأل الرئيس حافظ خير الله هل كتبتم بقناعة ؟ أم من أجل المال ؟! فرد كتبنا بقناعة قال الحمدي صدقني أنا لا استطيع ان اقدم لكم اي مبلغ مالي من خزينة الدولة لأنها أولاً أموال الشعب اليمني ، اقتنع حافظ خير الله ةعندما عاد إلى بيروت مقر الصحيفة قال له نحن نتعامل مع نمط آخر من القادة هذا الرجل حالة استثنائية تستحق التقدير يقنعك من الوهلة الأولى أنه صاحب قضية ومشروع وطني لذا ارجو أن لا نكرر طلبنا بالحصول على أي مقابل مادي منه . يتبع في العدد القادم
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص