تنافس عليها خمسة فنانين: كيف صارت "رددي" نشيد الوطن الخالد؟
بنبرة تباهٍ يتذكر مهدي عبدالملك العديني تفاصيل حفلة غنائية أحياها الفنان الكبير أيوب طارش العبسي مع بداية ثمانينيات القرن المنصرم في الاستاد الرياضي لمدينة الدمام السعودية، حضرها حشد كبير من المـُـغتربين اليمنيين، كانت أنشودة «رددي أيتها الدنيا نشيدي» مطلباً ملحاً لجماهير الحفل، وعلى الرغم من تحجج «أيوب» بأن ذلك النشيد يحتاج لفرقة مُتكاملة، إلا أنَّ الإصرار على سماعه لم يتوقف، غنى حينها النشيد، مُقترحاً تفاعل الجميع معه، «مهدي» لم يخف تأثره، ولم يتمالك نفسه، هب واقفاً مردداً الكلمات بحماس، وكذلك فعل الآخرون.
صاغ شاعر اليمن الكبير عبدالله عبدالوهاب نعمان «الفضول» كلمات ذلك النشيد مُنتصف سبعينيات القرن المُنصرم، فيما أيوب طارش ضالته غائب عنه في قاهرة المعز يدرس الموسيقى، ولا يحمل معه من مآثر شاعره غير «طير مالك والبكاء خلي البكاء لي»، وهي الفترة التي سرب فيها «الفضول» نصوصاً من بعض أشعاره الغنائية لأكثر من فنان، ليعوض غياب الفنان أيوب، ولكن دون فائدة، فـ «أيوب» مُعجزة فنية لا تُعوض.
عاد أيوب طارش إلى الوطن مُنتصف العام «1977م»، وفي مقيل حضره بصنعاء بمنزل نائب الرئيس أحمد الغشمي، وجد ولأول مرة نص قصيدة «رددي»، فقد سبق وأن سلمها «الفضول» لقيادة المظلات قبل حوالي عامين من ذلك اللقاء، ليتولوا بدورهم التواصل مع أي فنان يختارونه ليلحنها ويقدمها في العيد المقبل لثورة سبتمبر، وحسب حديث لـ «أيوب» فإن القصيدة سُلمت له في ذلك المقيل، وأنَّه من أول كلمة تفاعل معها، وباشر في تلحينها، مسابقاً الزمن، ومواصلاً الليل بالنهار، وما هي إلا أيام قلائل حتى توصل إلى ذلك اللحن المُعجزة.
وثمة حكاية فريدة حصلت أثناء مراسم التلحين، يرددها «أيوب» كثيراً، ففي ليلة حالمة وجد صعوبة في تلحين مقطع «في خطى الواثق تمشي قدمي»، فسياق كلماته أكبر من سياق باقي مقاطع القصيدة، أنهكه التعب ونام، ومع أحلامه وخياله الموسيقي استمر يدندن ويدندن إلى أن وصل إلى مبتغاه، استيقظ لتسجيل لحن ذلك المقطع، وبذلك أكتمل لحن ذلك النشيد.
يقول أيوب طارش: «القصيدة كانت تتكلم عن نفسها، وأروع ما في قصائد الفضول أنها تبدأ بالقمة، وتنتهي بالقمة، وحينما أؤديها أشعر أنها تمدني بشيء روحي، فالقصيدة عبارة عن بناء مركب مُتماسك، ليس فيها أي تكلف أو حشر للمعاني، والفضول كان يشدني إلى الطابع اليمني الأصيل، لقد صنع مني - رحمه الله - فناناً يعرف ماذا ومتى يُغني».
كانت هناك عديد محاولات لتلحين قصيدة «رددي»، ولأكثر من فنان، كـ «أحمد قاسم، وعلي الآنسي، ومحمد عطروش، وأحمد السنيدار»، والأخير هو الأبرز، فقد سُلمت له القصيدة من قيادة المظلات قبل «أيوب»، إلا أنَّه تأخر في تلحينها، ومع بدء العد التنازلي للحفل السبتمبري، فاجأ «السنيدار» المعنيين بتلحينها، واعتبر نفسه أنَّه الأحق والأولى بتقديمها، غير أنَّ «الفضول» حسم الخلاف، مُفضلاً لحن «أيوب» المميز بإيقاعاته السريعة، والمنسجمة وسياق الكلمات، فكان ما أراد شاعر اليمن الكبير.
ولإرضاء «السنيدار»، وحتى لا يذهب لحنه سُدى، تدخل صديقه الشاعر حسن اللوزي، وكتب على سياق قصيدة «رددي» قصيدة أخرى، ركب السنيدار لحنه عليها، فكانت أنشودة «إسعدي يا أرض بلقيس الجميلة».
أما الموسيقار أحمد قاسم، فقد وضع للقصيدة لحن «أوركسترالي»، وهو الآخر لم يُعجب «الفضول»، ولهذا السبب لم يرَّ النور، وما يزال بعض عشاق الموسيقار الراحل يحتفظون بتسجيل نادر له، وقد تم تسريبه وتداوله في وسائل التواصل الاجتماعي مؤخراً، كما تم تداول مقطع آخر للفنان علي الآنسي، سجله - هو الآخر – في جلسة مقيل.
صدح أيوب طارش بذلك النشيد لأول مرة في قاعة «المنتزه» بمدينة تعز، في حفلٍ حضره الرئيس إبراهيم الحمدي الذي أعجب به أيما إعجاب، لتتوقف إذاعة صنعاء عن بثه عبر أثيرها، ويقال إن ذلك بطلب من السفارة السعودية؛ التي ربما أزعجتها كلمة «أمميا»، فكان ذلك المنع دعاية مجانية، جعلت «رددي» مطلباً مُلحاً لجماهير الحفلات الأيوبية العريضة، داخل الوطن وخارجه.
مات الشاعر عبدالله عبدالوهاب نعمان «5 يوليو 1982» والفنان أيوب طارش يغني في تلفزيون عدن، ونشيد «رددي» كان ضمن مجموعة أغانٍ وأناشيد سجلها حينها بمشاركة الفرقة الموسيقية هناك، لتعلن القيادة السياسية في الجنوب الحداد أربعين يوماً على فقيد اليمن، المُستعصي على أوهام الشطرية حياً وميتاً.
قبل موت «الفضول» بأيام، زار الرئيس علي ناصر محمد مبنى التلفزيون، و«أيوب» والفرقة الموسيقية منهمكون على بروفات نشيد «رددي»، وقتها أبدى «ناصر» إعجابه الشديد بذلك النشيد، كلمات ولحناً، وطلب من «أيوب» أن يختار منه سلاماً وطنياً مدته دقيقة واحدة، ونشيداً وطنياً مدته عشر دقائق، كاشفاً في الوقت ذاته إعطاء فنان اليمن الكبير - مقابل ذلك - ما يريد.
يقول الفنان أيوب طارش: «أجبته حينذاك: لا أريد شيئاً، يكفي أنَّه سيكون نشيداً وطنياً يذكرني به الجميع، وفعلاً قمت بما طلب مني، وبدأنا باختيار السلام الوطني، والنشيد الوطني، وتم تسجيل ذلك، وبدأ يُعزف رسمياً كنشيد وطني خلال فترة الحداد على الشاعر الفضول، فكان أروع تخليد».
فيما أيوب طارش يصدح بذلك النشيد، كانت الوحدة حلماً بعيداً يتخطفه القدر، ومن خلاله حفر وبقوة مراسيم تحقيق ذلك الحلم، يقول «أيوب»: «لقد كان نشيداً مكتوباً من أعماق روح شاعره الفضول، لقد قال كلاماً فيه أحلامه وأحلام كل اليمنيين، فأتى هادراً بكل جميل في هذا الوطن، كان نشيداً وحدوياً، حين قرأته أول مرة لم أتمالك نفسي لتلحينه، فقد وجدته يشمل كل شيء نتمنى أن يتحقق، وعملت جهدي لأن يكون اللحن على قدر ذلك الحب الذي احتواه».
نشيد «رددي» لم يكن محل إجماع قيادة الشطرين في كل اللقاءات التشاورية التي سبقت إعلان الوحدة فقط؛ بل حُسم أمره في جلسة واحدة، وقبلت به القيادة السياسية مُباشرة، ودون تردد، كما أنَّ اتفاقية الكويت «مارس 1979م» نصت أيضاً على اختياره، والاجماع الأخير ربما جاء امتدادا لتلك الاتفاقية.
تم حذف أكثر من ثلث القصيدة، ولا لوم على اللجنة المـُكلفة حيال ذلك؛ كونها جزئية فرضها الواقع، ونحن في عصر السرعة، والسهولة مطلوبة كي يُحفظ النشيد، وتُردده الأجيال، واللوم الذي وقع واستمر لأكثر من عشر سنوات بعد تحقيق الوحدة، تركز حول استبدال أعضاء برلمان الوحدة لكلمة «أممياً» بـ «سرمدياً»، وكان ذلك إخلالاً بالتدرج السلمي للقصيدة: «أنا إنسان، أنا عربي، أنا يمني».
هذا أولاً، والثاني تركز حول عدم ذكر الفنان أيوب طارش كملحن للنص، إلا أن ذلك اللوم تبدد بفعل القرار الجمهوري الذي صدر فيما بعد، وأعاد كل شيء إلى مكانه الصحيح، ارتاح «أيوب» كثيراً لذلك القرار، واعتبره تكريماً للشاعر عبدالله عبدالوهاب نعمان في قبره.
«أيوب» الذي أحب الوحدة كثيراً، بكى يوم إعلانها من شدة الفرح، لكنه تلقى خبر اختيار لحنه نشيداً وطنياً لكل اليمنيين كغيره من المواطنين، فالقائمون على الحذف والاستبدال، وصياغة القرارات، لم يكلفوا أنفسهم عناء التواصل معه، وسؤاله: «إيش رأيك؟»، الصغار كعادتهم لا يفقهون شيئاً فيما يخص التعامل مع القامات الكبيرة.
وصلت أنشودة «رددي» إلى «أيوب» ففصّل لها أجمل الألحان، وبث فيها الحياة، فصارت نشيد الوطن الأوحد، ممثلة علامة فارقة في تاريخنا النضالي والفني معاً، صحيح أنَّ الكلمات جميلة وقوية، إلا أن صوت أيوب طارش جعلها أقوى وأجمل.
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص