التعصب.. وتكرار الهزائم
ما يجري في اليمن من محاولة تكرار للأنظمة المشوهة وجدانياً ووطنياً وإعادة إنتاج نظام القبيلة المتخلفة أو العرق المدعي بالحق الإلهي ثانيةً بات وهماً وسراباً بقِيعةٍ مُحال العودة، لأنه كان محاكاةً لتكرار أغاني الدودحية على خشبة المسرح السياسي التقليدي الذي عافه الناس وملُّوا وجوه مغنيهِ واستقبحوا أصواتهم وأداءهم البئيس. تحرر الشعب اليمني عبر ثورة 26 سبتمبر العظيمة من الاستبداد السلالي ولم يستطع التحرر من زنابيل وعكفة الاستبداد السلالي ذاته، فانسحب الحكم من تكوينه الإمامي المذهبي إلى عساكر القبيلة المشايعين له، الذين أعادوا ممارسة التخلف بطريقة أخرى وتحت مظلة أحقية القبيلة "الزيدية" بالحكم والاستئثار به عن باقي شرائح اليمن المثقفة والرائدة أداءً والمنتجة اقتصاداً، وأُعيد المنهزمون السلاليون إلى الحكم بطريقة غير مباشرة وتحت مظلة القادمين إلى الحكم حفاةً ومحدودي الخيال، ومن تحت عمائهم حكموا وهم عن الشرِ غافلون. أسئلة كثيرة تبحث عن إجابات منطقية وظاهرة مجتمعية تستدعي الدراسة بعمق، منها، لماذا فشلت الثورات اليمنية المتكررة ومن الذي أعاد المنهزمين بالأمس إلى سدة الحكم منتصرين اليوم؟ ذلك أن الإجابات عن هذه الأسئلة الوجودية ستعالج معضلة اليمن من جذرها، حتى لا تتكرر الهزائم وتستمر ظواهر السحق الممنهج للدولة كمؤسسات وللمجتمع كقيادات، أحزاباً وأفرادا. ولعل السؤال الراهن هو لماذا الممارسات الجهوية والمناطقية في صفوف الجيش اليمني وفي قوام الشرعية والحرب ضد المشروع الحوثي الانقلابي لا زالت قائمة؟ هناك ممارسات مخيفة تنذر بتكرار الهزيمة المضافة إلى قوائم الهزائم السابقة مرةً أخرى، لأن بعض القوى التقليدية تريد العودة إلى العاصمة صنعاء عبر دماء اليمنيين لتمارس الإقصاء والخسف المجتمعي ضد المناضلين والمقهورين والقوى الفكرية والسياسية والإقتصادية من جديد. إن الذين يراهنون على استمرار بيادق الماضي في حكم اليمن قبيلة أو عرق، وإدارة شؤونه وإخراجه من المأزق التاريخي والمنعطف الخطير الذي يمر به فهم واهمون، لأن خدائع ما بعد ثورة إيلول 62 لن تتكرر، ذلك أن الثورة قامت بها الطبقات المقصية الباحثة عن المساواة والمقهورة التي كانت تبحث عن العدل، فاندفعت تقاتل وتسحق الباغي كالصخور المرتمية من أعالي الجبال وتنهمر بعنفوان شلالاتها نضالاً وتضحية، غير أنها كانت حلماً وليداً اختطفته أيادي المشوهين الأنصاف، فكانت الدرس القاسي الذي يستحيل إعادته من جديد عبر جبال نهم أو عبر واحات التهايم، ولن تعود تلك المأساة لأن الصبح بات أبلج والحق أحق أن يُتبع والجماهير خبرت تجاربها القاسية في كل ربوع اليمن. ولأن تلك الجماهير اكتوت بلهيب الأنظمة مشروخة الهوى والهوية، المتخمة بعُقد الماضي وجهالاته التي لعبت على عواطف هذه الجماهير، بالترهيب تارة وبالترغيب والإغراء وشراء الذمم تارة أخرى، ولأنها كذلك لم تدُم ولن تعود، لأن صحيان الشعب الثقافي وانتشار الوعي السياسي والنمو الديناميكي والأداء الشعبي والنخبوي تطور وعَبَرَ البحر وعانق السواحل، وبفعل القراءة العميقة والدراسات الواسعة في الداخل والخارج والتطواف والاحتكاك بالشعوب الأخرى حيث تفاعلت مع إمكانيات وتقنيات تلك الشعوب وما تتمتع به من حريات وحقوق. هذا التغيُّر الجذري للجماهير جعلها تتمرد وتخرج إلى الشوارع وتفتح صدورها سكناً للرصاص المتوحش عندما شعرت بالإحباط واليأس من تطور أداء النظام الأصم سماعاً والمتخشب أداءً وفكراً، صرخت لا للظلم، لا للجهل لا للفساد لا للعبث والجمود، صرخت نريد أن نحيا حياة كريمة كباقي شعوب الأرض الحرة التي تجاوزت قياداتها مآسي ومرارت الحروب والصراعات وأخذت منها دروساً وعبر، وسئمت استمرار نماذج الحكم القمعي ومصادرة الحريات واستسخاف العقول في زمن الــ "سمارت فون" و"التاتش سكرين" حتى تحول العالم إلى قرية كونية. إن أجيال اليوم ليست كأجيال الأمس، فالثورة المعرفية المتعددة غيرت كل المفاهيم، وعرف هذا الجيل النماذج التي تنم عن الحداثة في المؤسسات الحاكمة القائمة على دساتير وقوانين عادلة لا تميز بين أبناء المجتمع على أي أساس عرقي أو قبلي أو ديني أو مذهبي، ولا بد لليمني أن يعبر إلى الضفة الأخرى من حياة العدل والمساواة ونشر الحقوق واعتماد الحريات عاجلاً غير آجلا. ولعل مقتضى الحال يستدعي توجيه رسائل لكل من يعي القول ويدّكر، إن اليمن لن يصلح حالها، شعباً ومؤسسات، بأدوات الماضي ومنهجية حكمه وشخوصه ومفاهيمة، وأن الضابط المناطقي الجهوي المتخلف مهما بلغت شهائده المستنسخة دون معرفة وحس وطني صادق لن يصلح أن يقود ويسيطر على وحدة عسكرية منتسبيها من كل مناطق اليمن، ولن يسهم في أي حرب بل سيكون أول الفارين من المعركة. ولن يبلغ السياسي مراده في خدمة بلده مالم يتجرد من كل تشوهاته الحزبية ويتحلل من عقد الماضي وملاحقة أجهزة الأمن له في العهود القديمة، ولن يدير المؤسسة بنجاح شخص ما لم يتجرد من ولاءاته الضيقة ومطامعه الشخصية. كما أن الدبلوماسي لن يحمل رسالة بلده إلى العالم الخارجي بمهنية واحتراف مالم يتقن اللغات الأجنبية ويدرس أحداث الدول كي يحسن المدخل إليها تناغماً مع مصالح بلاده، وترك رصيد ماديته لمكتوب أرزاقه بعيداً عن مهامه، ولا يلج في شبهات تجهض تاريخه وتبعث سخط موظفيه والجاليات المستحقة لخدمته وتفانيه. وأخيراً أقول، لن تقوم دولة اليمن الاتحادية بتصريحات كاذبه وشعارات براقه مالم يتم تجاوز معادلات الأفضلية والصراع، وانصياع مراكز القوى لمركز قوي يحكمه قادة وطنيون نزهاء أوفياء قارئين بعمق للواقع وينطلقون منه، يخلصون للأمة بتجرد، وحكومة مركزية تقوم بتوزيع صلاحيات ومهام الحكومات المحلية بمهنية وتطبق مواد الدستور الاتحادي وتؤسس لعلاقات متينة بين الأقاليم وتحافظ على السيادة وعلى وحدة البلد من التفكك والانقسام.
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص