مبادرة كيري اليمنية ..اللعب في الوقت بدل الضائع

تمثل المقاربة الأميركية للحرب في اليمن مثالاً نموذجياً للسياسة الأميركية في إدارتها أزمات الشرق الأوسط، إذ تعتمد هذه المقاربة على التحكم بمسار هذه الأزمات، مع الحرص على تجنب الإخلال بموازين القوى في المنطقة، أو تأثير ذلك على علاقاتها مع حلفائها الإقليميين، والاستفادة من ثقلها السياسي لحماية مصالحها في المنطقة وبيع الأسلحة للدول المتدخلة في تلك الحروب.

 

بعد التدخل العسكري للتحالف العربي، بقيادة السعودية، في اليمن، تحولت الإدارة الأميركية إلى شرطي مرور، ينظم سير العمليات العسكرية للتحالف العربي، ويسجل مخالفات القانون الدولي الإنساني بمقتضى مصلحته الخاصة. ومن ثمّة، فإن اليمن، كحيز جغرافي وسياسي تخاض فيه حربٌ على مستويات عدة، لا يشكل للإدارة الأميركية أهمية، إلا بقدر أهمية دخول السعودية طرفاً رئيسياً في الحرب اليمنية؛ ترتكز مقاربة الإدارة الأميركية للحرب في اليمن من مقتضيات علاقاتها مع حليفها السعودي، وتتأرجح سلباً وإيجاباً، تبعاً لتعقيدات القضايا الأخرى في المنطقة، فلم يكن الدعم اللوجستي الذي قدمته الإدارة الأميركية للسعودية شيكاً على بياض، كما صرح أحد مسؤوليها العسكريين، حيث استثمرت أميركا حاجة السعودية للأسلحة، لتصبح ثاني ممول للأسلحة بعد بريطانيا، في حين احتفظت بحقها الحصري في استخدام المجال الجوي اليمني، بما يخدم استراتيجيتها في تنفيذ ضرباتٍ على تنظيم القاعدة، لكنها، بعد تصاعد الخلافات مع منظمة "أطباء بلا حدود"، على خلفية استهداف طيران التحالف كوادرها، سحبت مستشاريها العسكريين من الرياض، وتنصلت من حليفها السعودي، في ترجمةٍ واقعيةٍ للقاعدة الأميركية الحاكمة لعلاقتها السياسية بالدول العربية: "شركاء في الأرباح فقط".

 

التنصّل من المسؤولية حيال الحرب في اليمن هو الخيار الآمن للإدارة الأميركية، ولا يقتصر ذلك على تجاهلها تبعات أخطاء حلفائها، وكلفة الحرب على اليمنيين، بل يتجلى في عدم جدّيتها بالدفع بالمسار السياسي بين الفرقاء اليمنيين، إذ لم تتبلور المبادرة الأميركية التي أعلنها وزير خارجيتها، جون كيري، أخيراً إلا في نهاية ولاية الرئيس الأميركي، باراك أوباما.

 

وعليه، لا يمكن اعتبار المبادرة الأميركية وتوقيتها تعبيراً عن مراجعة واشنطن سياستها تجاه اليمن، بقدر ما أنها موجهة للداخل الأميركي الممتعض من استمرار الدعم العسكري للسعودية.

 

 وتأتي المبادرة في إطار استعداد الديمقراطيين لتحسين صورتهم، مع قرب موعد الانتخابات الرئاسية، وإعلان براءة ذمة إدارة الرئيس أوباما أكثر من أنها تمثل مبادرةً جادّة لحل وتقريباً لوجهات النظر بين الفرقاء اليمنيين.

 

تستقي المبادرة الأميركية خطوطها العريضة من مقترح المبعوث الأممي لليمن، إسماعيل ولد الشيخ، المقدم في مشاورات الكويت، وهو تشكيل حكومة وحدة وطنية بين الفرقاء اليمنيين، وتسليم أسلحة الحوثيين.

 

ولا تختلف عن هذا المقترح إلا في تقديمها المسار السياسي على العسكري، واشتراط تسليم الأسلحة إلى طرف ثالث محايد، لم تسمِه المبادرة.

 

وتشير بنود المبادرة، خصوصاً بتقديمها المسار السياسي على العسكري، إلى إدراك أميركا صعوبة تنفيذ القرار الأممي متدرّجاً، إذ أثبتت المعارك العسكرية في اليمن استحالة حسم الحرب لصالح طرفٍ بما يمكّنه من فرض شروطه على الطرف الآخر، وبالتالي، فإن توزان القوى تحوّل إلى واقع يحتم على طرفي الصراع تقديم تنازلات؛ كما ساوت المبادرة الأميركية، في التوصيفات السياسية والمسؤولية، بين الفرقاء اليمنيين، إذ لم تشِر إلى سلطة الرئيس عبد ربه منصور هادي سلطة شرعية في مواجهة انقلابيين، واعتبرتها من أطراف الصراع.

 

ويعكس هذا الانتقال الدلالي في التعبيرات الأميركية استقراء سياسياً للمجتمع الدولي حول طبيعة الحرب في اليمن، وهشاشة سلطة الرئيس هادي على الأرض، ولا مسؤوليتها في الحفاظ على شرعيتها، مع فشلها في تذليل التحديات الأمنية في المناطق الجنوبية المحرّرة.

 

 

من جهة أخرى، لم تصف المبادرة جماعة الحوثي طرفاً سياسياً انقلب على الشرعية، وإنما أقلية يمنية نازعت السلطة شرعيها، وهو قصورٌ في الذهنية الأميركية في فهم السياقات السياسية والعسكرية والدينية التي أنتجت جماعة الحوثي، وأنها لا ينطبق عليها توصيف الأقلية الدينية، إلا أن التوصيف الأميركي ينسجم مع ما باتت تعرف بعقيدة الرئيس أوباما التي تفسر مجمل الصراعات في منطقة الشرق الأوسط، باعتبارها صراعات سنية/ شيعية، تقودها السعودية وإيران.

 

 

إقرار المبادرة الأميركية بضرورة تسليم أسلحة مليشيات الحوثي إلى طرفٍ ثالث محايد، وليس إلى الدولة اليمنية التي تمثلها سلطة هادي، أو الجيش الوطني التابع له، لا ينزع فقط عناصر القوة من سلطة هادي التي طالما اتكأت إليها في تحديد شرعيتها، وإنما فيه إقرار أميركي المتغيرات التي أحدثتها الحرب في جسد الدولة اليمنية، وكذلك في تفتيت العقيدة الوطنية للجيش اليمني، فالدولة التي جرفتها مليشيات الحوثي باتت كياناً رخواً، وبالتالي، لم تعد قادرةً على استعادة سلطتها، بما في ذلك استلام الأسلحة من المليشيات.أما بخصوص الجيش التابع لهادي، فوفقاً للتقديرات الأميركية، فإنه لم يتشكل وفق أسسٍ وطنية.

 

ولذا، فإنه معرّض للاختراق من العناصر الجهادية المتطرفة، وضم المليشيات إلى قوامه، ليتحول جيشاً طائفياً ومناطقياً، ولا تريد أميركا بأي حال تكرار تجربة الجيش في ليبيا والعراق.

 

 

المبادرة الأميركية مقاربة للخيارات الآمنة التي تفضلها إدارة أوباما، عوضاً عن إيجاد حلول حقيقية للأزمة اليمنية، كما أنها لا تمثل انتصاراً سياسياً لأطراف الصراع اليمنية، فالشرعية التي وافقت على المبادرة، استجابةً لموافقة السعودية، بعد تطمينات أميركية، تدرك أن المبادرة لا تصب في صالحها، بمساواتها مع طرف انقلابي.

 

وخلافاً لاعتقاد كثيرين أن المبادرة مكسب لجماعة الحوثي، بتأكيدها على مظلوميتها وتبني رؤيتها السياسية، فإن جماعة الحوثي التي تعتقد أن الخيار العسكري يضمن لها مكاسب شرعية، تتنزعها بقوة السلاح وإنهاك اليمنيين، ستراهن على الاستمرار في الحرب. لا يمكن الجزم باعتماد المبادرة الأميركية أرضيةً للتفاهم بين الفرقاء اليمنيين، وعلى الأغلب، سيتم تجاهلها، والعودة إلى السجالات القديمة نفسها.

 

 

في الوقت الضائع، بأناقةٍ سياسية لافتة، نفضت إدارة الرئيس باراك أوباما يديها عن حرب اليمن، عبر مبادرةٍ تنظر لليمن المحترب بالمقلوب، مغمضةً عينيها عن معاناة اليمنيين الذين، وإن لم يكونوا يأملون إنصافاً من هذه الإدارة، إلا أنهم أملوا خروجاً لائقاً لأوباما.

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص