سبتمبر في اليمن بين الحلم والخيبة

شهد التاريخ اليمني المعاصر، بعظمته وهزليته، حدثين تاريخيين كبيرين، يتقاطعان في أهميتهما السياسية وانعكاساتهما على اليمن واليمنيين. وعلى الرغم من تناقض مدلولاتهما السياسية والاجتماعية والوطنية، فإن تأثيرهما يتجاوز حيزهما الزمني والجغرافي، ليلقيا بظلالهما على مجمل الأحداث التي تعيشها اليمن وعلى الإقليم، إذ كان من نتائجهما غير المباشرة التمهيد لأشكالٍ متباينةٍ من التدخلات الإقليمية للدفاع عن الثورة والجمهورية اليمنية الوليدة في الحالة الأولى، والدفاع عن شرعية الرئيس اليمني، عبد ربه منصور هادي، في الحالة الثانية.

شكلت ثورة 26 سبتمبر 1962، أو الثورة الأم كما يسميها عموم اليمنيين، ترجمة لنضالات الحركة الوطنية اليمنية، وتعبيراً عن الإرادة الشعبية لليمنيين، فقد بلورت مساراً وطنياً لانتقال سياسي واجتماعي، ظل المحدّد للسلطة السياسية، على الرغم من كل تجاوزاتها. مثلت ثورة 26 سبتمبر، في مضامينها الاجتماعية، نقلة نوعية داخل بنية المجتمع اليمني، وحدّدت العلاقة بين السلطة السياسية الحاكمة والشعب، باعتبار الشعب مصدر السلطات، وتستمد السلطة السياسية مشروعيتها منه، إلا أن فشل الحركة الوطنية في الدفاع عن مكتسبات الثورة، وتكلس

"ضرب انقلاب جماعة الحوثي وصالح الهوية الوطنية لليمنيين، عبر إنتاجها في قوالب عصبوية في تكوينات دون وطنية" حراكها السياسي عند مستوى الشعارات، إضافةً إلى الصراع الأيديولوجي بين أجنحتها اليسارية والقومية، شكل مدخلاً لالتفاف القوى التقليدية على النظام الجمهوري، وإعادة إنتاج نفسها داخله، مستفيدةً من دعم النظام الملكي السعودي لها في مقابل عملها وكيلاً محلياً للمملكة، وواحدةً من أدواتها ضد النظام الجمهوري؛ ساعدت كل تلك العوامل في حرف الثورة عن مسارها، وتجلى ذلك في إنتاج نظام سياسي جمهوري مشوّه في قالبه العام، قائم فعلياً على نظام عصبوي عائلي، يكرّس التمايزات الاجتماعية والاقتصادية. ومثّل نظام علي عبدالله صالح ذروة تشوّه النظام الجمهوري، حيث كان على الضد من تطلعات اليمنيين، وآمال الحركة الوطنية التي تعرّضت للتجريف منذ ذلك التاريخ، وباتت سلطةً تتحرّك خارج سياقها السياسي والوطني، وتجتر معاركها الخاصة.

على النقيض من المدلولات السياسية والاجتماعية والوطنية لثورة اليمنيين، شكل انقلاب جماعة الحوثي وقوات صالح على السلطة الشرعية، في سبتمبر/ أيلول2014، نكسةً وطنيةً على مختلف الأصعدة، ولا زال اليمنيون يقاسون تبعاته، إذ تجاوز انقلاب جماعة الحوثي وصالح المفهوم السياسي والعسكري للانقلاب، باعتباره من أشكال الصراع على السلطة، وفرض إرادة الأقلية التي تمثلها جماعة مسلحةُ وحلفاؤها على الأغلبية الشعبية، كما تتجاوز الآثار المترتبة على الانقلاب الراهن اليمني إلى صوغ واقع اليمنيين وحياتهم ومستقبلهم على صورته، فضلاً عن كونه سبباً في استدعاء قوى إقليمية في حرب اليمن.

من الناحية السياسية، قوّض انقلاب جماعة الحوثي وصالح المعادلة الديمقراطية التي قبلها اليمنيون، عبر انتخاب سلطته الشرعية ممثلة بالرئيس عبد ربه منصور هادي، فصادر الانقلاب حق اليمنيين في خياراتهم الديمقراطية، وجرف المشروع الوطني الذي تعاقد عليه اليمنيون، عبر تحويله من مستوى الخلاف السياسي إلى مصدر للصراع والاقتتال الأهلي، ومن ثم الانقضاض على الدولة اليمنية، ومؤسساتها السياسية والعسكرية، واحتكارها خدمة أجندته.

كما جرف انقلاب جماعة الحوثي وصالح القوى السياسية اليمنية، وانعكس ذلك على تموضعاتها السياسية وأدائها في الواقع، فعلى الرغم من سقوطها المتكرّر في اختبار تمثيلات الإرادة الوطنية لليمنيين، إلا أن الانقلاب ضرب القوى السياسية اليمنية بتنصله من المرجعيات الوطنية والاتفاقات التي كان شريكا فيها، وادى ذلك إلى حصر هذه القوى في مأزق وجودي أكثر مما هو سياسي، بين خيارين لا ثالث لهما، إما قبول سلطة الأمر الواقع التي يمثلها الانقلاب، تحت الإكراه وبقوة السلاح، أو رفض سلطة الانقلاب والدخول معها في حربٍ غير مبرّرة. وبالتالي، وجدت القوى السياسية اليمنية نفسها في خياراتٍ صعبةٍ فرضت عليها، وكان من النتائج الكارثية للقسرية الحوثية أن أصبحت هذه القوى موضعاً للاستقطاب السياسي، تحت دوافع مناطقية وطائفية، وتحولت القوى اليمنية من حامل مشروع وطني إلى حامل مشاريع سياسية إقليمية، خصوصاً بعد التدخل العسكري السعودي في اليمن.

على مستوى آخر، ضرب انقلاب جماعة الحوثي وصالح الهوية الوطنية لليمنيين، عبر إنتاجها في قوالب عصبوية في تكوينات دون وطنية، فما فعله الانقلاب هو زحزحة الاطمئنان الراسخ بأن هناك هوية وطنية واحدة لليمنيين، ونقل الصراع من بعده الوطني إلى صراع هويات طائفية ومناطقية وجغرافية متحاربة، إذ كرّس الانقلاب خطاباً سياسياً واجتماعياً لم تشهده اليمن في مجمل الصراعات السابقة، حيث قوّض هذا الخطاب الهوية والوحدة الوطنية لليمنيين، وأصبحت المسألة الطائفية في اليمن حقيقةً بلورها صراع الحوثي في حربه ضد أطياف المجتمع اليمني، إضافة إلى فرضه تصوره العقائدي الأحادي للدين ولطبيعة الحرب التي

"كرّس الخطاب الاجتماعي والديني الطائفي الذي فرضه الانقلاب على اليمنيين عصبوية دينية مضادة في المدن اليمنية الشافعية" يخوضها في المدن اليمنية الأخرى. وكانت الوثيقة الزيدية التي وقع عليها علماء ينتمون إلى جماعة الحوثي ووثيقة علماء السنة اليمنيين في الرياض تعبيرين عن ذروة الصراع الطائفي في المجتمع اليمني.

كرّس الخطاب الاجتماعي والديني الطائفي الذي فرضه الانقلاب على اليمنيين عصبوية دينية مضادة في المدن اليمنية الشافعية، إذ برز خطابٌ مغاير يتجاوز الأنماط الاعتيادية المشوّهة التي تفرزها الحرب، ويستمد صلابته النظرية من خطاب الانقلاب ويتغذّى عليه، والأنكى أن هذا الخطاب لم يعد ينحصر في الجماعات الدينية المتشدّدة، وامتد إلى المستويات الشعبية التي تفسّر الحرب وانقلاب جماعة الحوثي وصالح انتقاماً زيدياً من الشوافع، في استنفار للمظلومية التاريخية لأغلبية الشافعية اليمنية التي لا تحكم، بل تُحكم.

قبل عامين، وتحديدا في 21 سبتمبر/ أيلول 2014، وبغباء سياسي محض، تحرّكت مليشيات الحوثي مدعومة بقوات صالح، في سياق تاريخي مضاد لكل ما مثلته الثورة الأم في ذاكرة اليمنيين، سالكين الطريق القصير في إسقاط صنعاء وتجريدها من دلالتها الرمزية عاصمة لجمهورية اليمنيين، تماماً كما فعل الملكيون المدعومون من السعودية قبل عقود طويلة.

بالنسبة لليمنيين، يظل سبتمبر شهراً مختلفاً، ضاجّاً بالأحلام والخيبات، يستعيدون فيه أحداث زمنين مختلفين، زمن الثورة والجمهورية والمساواة الوطنية وكل أحلام التغيير، وزمن آخر مُر، يعيشون فيه فصول المأساة عندما دشّنت جماعة الحوثي وصالح سنوات الحرب والطغيان والمتاهة.

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص