الأغنية اليمنية الشعبية "ملحمة الإنسان والطبيعة

 

                                                                بقلم / سهير السمان

 

تاريخ الأغنية اليمنية رائحة الأصالة التي تعود إلى قدم الحضارة الحميرية . فقد ذكر صاحب "الأغاني" أن غناء أهل اليمن يرجع إلى "علس بن زيد ذي جدن" فقد زعموا أنه أول من تغنّى باليمن، وأنه كان من ملوك اليمن. فالجدن  هو الصوت الحسن عند أهل اليمن.

ويقول الأستاذ الصادق الرزقي صاحب "الأغاني التونسية: إننا لو أردنا مقايسة اللغة للأغاني بما سواها من اللغات رجعنا بها إلى أحقاب بالية وعصور خالية ونظرنا إلى عاد وثمود وآل تبع ويعرب وطسم وكديس فنظرنا إلى تلك المدنية العربية والحضارة الحميرية التي بقيت لنا أطلالها تنشد على نغماتهم الشعرية، فأننا بتلك الأشعار تتبعنا آثار العمران القديم، فاهتدينا إلى أن تلك الحضارة لا تخلو من كمالات في ظروفها وضروبها ومن البديهي أن الغناء والطرب من ألزم الضروريات، و سكان اليمن والحيرة وحضرموت وسبأ وغيرها قد أتوا من الذلاقة وصفاء الصوت وحسنه درجة سامية وعرفنا منزلة هؤلاء من الشعر وتقاسيمه.

و في شمال اليمن نشأت عدد من المدارس الفنية على رأسها مدرسة فن «الشعر الحميني» المشهور بألحانه الجميلة وشعرائه المجيدين من أمثال الشاعر علي العنسي صاحب ديوان «وادي الدر» والشاعر الآخر عبدالرحمن الآنسي وابنه أحمد الآنسي صاحب ديوان «ترجيع الأطيار» وقصيدة «يا حمامي أمانة مادهاك» والشاعر الخفنجي صاحب قصيدة «وابروحي من الغيد» التي غناها مجموعة من الفنانين من أشهرهم محمد سعد عبدالله وأحمد السنيدار وعلي السمه وعبدالرحمن الآنسي كما غنى هذه الأغنية عدد من فناني الخليج من بينهم الفنان يوسف الضاحي والفنان محمود الكويتي وصاحب الصوت الشجي الفنان عوض الدوخي الذي كان يغني أغاني أم كلثوم بعزف منفرد على العود كما غناها -فيما بعد- صوت الأرض الراحل طلال مدّاح.

كما أن الذين عاشوا تلك الفترة لم ينسوا «المدرسة الكوكبانية» بزعامة الشاعر الحميني محمد عبدالله شرف الدين ومن الفنانين الذين امتطوا صهوة هذه المدرسة الفنان اليمني الراحل محمد حمود الحارثي والثلاثي الكوكباني - وغيرهم.

 

 

الأغنية اليمنية والشعر الحميني:

سمي الشعر اليمني ب الحميني نسبة إلى قرية الحمينية من مخاليف الحديدة والتي ينسب إليها شعراء معروفين يسمى واحدهم بالحميني فقد توسعوا وأكثروا من نظم الشعر الشعبي اليمني على شكل موشحات ومبيتات التي اشتق منها الشكل العمودي المعروف في الأشعار النبطية والحمينية و الحورانية فنسب الشعر اليمني لأحدهم يسمونه الحميني كما نسبت الألحان اللعبونية إلى ابن لعبون والألحان الحميدانية إلي حميدان الشويعر ولكن الشعر اليمني بالذات سمي كله بالحميني نسبة إلي شاعر من تلك الديار الذي أبتكر أشكالاً من بعض الأشعار الغنائية مع أنه كان يسمى الشعر الشعبي في حضرموت ب (الشعر الحضرمي) وفي صنعاء بـ(الشعر الصنعاني) وفي لحج ب (الشعر اللحجي) إلخ.

 

أوزان لشعر الحميني:

أوزان الشعر الحميني هي نفسها أوزان الشعر النبطي إلا أن أكثر ما يوزن عليه أهل اليمن هو الصخري والمسحوب والهجيني ويسمونها بأسماء أخرى.

قال الأديب اليمني محمد بن عبدالقادر بامطرف في مقدمة كتابه (الميزان): " نجد بين عشرائنا الشعبيين، المتعلمين والأميين، من يذكر في أشعاره إشارات إلى بحور شعر كالبحر العشري أو المثمون أو المسدوس أو الربوع.. ولقد تتبعت تلكم التسميات البحورية مع بعض أصدقائنا الشعراء الشعبيين في حضرموت وناقشت معهم بحور الشعر التي يذكرونها بين آن وآخر، فألفيتهم غير متفقين علي تحديدها، ولا يعلمون لماذا سمي البحر المسدوس مسدوساً على سبيل المثال، ول ايجزمون بصورة قاطعة بأن هذا البحر من هذا النوع أو ذلك"

 

 

الأغنية اليمنية وترددات الطبيعة

للأغنية اليمنية رصيد كبير على الساحة الفنية ، تميزت في طرح المواضيع المتنوعة التي تعكس خصوصية البيئة اليمنية، وخصوصية العود اليمني، فهي تحمل الطابع الرومانسي الممزوج بحب الأرض المرتبط بالحبيبة ومواسم الزراعة، وقد صاحب الأغنية فنا وطربا ،تلك الكلمات العميقة في نسيج من خيوط الضوء في صباحات الريف ، ومهاجل الزراعة، وطقوس الحياة البسيطة ، العامرة بالسكينة، لشعراء لم يجُد العصر الراهن بمثلهم، وهذا ما نراه في أشعار الأستاذ الكبير مطهر الإرياني صاحب ديوان" فوق الجبل.

استطاع الإرياني أن يستثمر القاموس اليمني الشعبي الغني في خلق ملحمة غنائية ممزوجة بروح الطبيعة ، يقول الباحث عبد الباري طاهر: إنه كشاعر أتقن شروط قصيدة العمود، وألم إلماماً واسعاً بالأدب الشعبي المواويل والمهاجل والزوامل والدان والزجل والموشح والبالة والحميني". ويعزو طاهر إبداع الإرياني، إلى روح الوعي العميق بالتراث اليمني وحسّه المرهف بالحياة الشعبية والعادات والتقاليد والأتراح والأفراح ومواسم الزراعة ومهاجل الحصاد والرقصات الشعبية، والأغاني العامية والفصيحة الملحونة «الحميني» وأوزانها ومفرداتها وتراكيبها، فيقدّم تجديداً ابداعياً في القصيدة العامية والأغنية الشعبية، بألوان زاهية من الصور والأخيلة والنغم المعبأ بالحزن والناضح بالفرح والحياة.

ويردّ طاهر شعبوية كلمات الإرياني ورواجها لغوصه عميقاً في حياة الناس العاديين وإدراك سرّ موروثهم الإنساني، والقدرة الفائقة على التعبير الإبداعي عن هذه الروح الممتدّة في التاريخ آلاف السنين، و هو ما جعل من أغاني مطهر الإرياني زاداً يومياً ولحظياً للفلاح في الحقل والراعية في الوادي، والمسافر، ونشيد الأعراس وزامل المحارب، وسلاحاً بيد المقاومة الوطنية في مقارعة الاستعمار والاستبداد".

ومن روائع قصائده المغناة "الحب والبن". الأغنية الخالدة .كما يثبتها الواقع الفني عبر الأجيال. وأيضا أغنية "خطر غصن القنا.. و "البالة" والعديد من القصائد المغناة . في هذه القصائد ألف ّمن الطبيعة سمفونية امتزجت بالإنسان اليمني الذي كان هو الأرض والحضارة العريقة منذ قديم الأزل، وهذا من عمق ارتباط حياته بالزراعة وعلمه بكل ما يرتبط بها.

أغنية "الحب والبن" تشحذ همة الشباب للعودة إلى الأرض والزراعة ليبلغ أمانيه، ولم تزل نبتة البن هي الرمز والكنز الثمين لعزة اليمني وكرامته، فمن تلك السهول والوديان ينشأ الحب الأبدي، حين يرتبط موعد لقاء المحب بمحبوبه في موسم جني الثمر .. ويعزفها عود الفنان الكبير علي الآنسي، ويشدو بها صوته ليقول:

"مبروك على من صبر للموعد المنتظر .

. الخير نجمه ظهر..

ونال كل الأماني.

هذه نتيجة صبر المحب في انتظار اقترانه بالحبيبة التي لم تكن سوى صورة للأرض.

وانا المعنى بحب أهيف حميد الخصال..

عذب اللمى ساحر العينين فتان حالي..

طلبت انا القرب منه قالوا القرب غالي.

. قلت امهلوني أجل مضروب لخير ثاني.

. قالوا قران القمر على الثريا سحر .

في يوم خامس عشر من شهر تشرين ثاني.

هنا يتحدد موعد لقاء المحبوبين بموعد الحصاد، ليكون بناء العش الأبدي الذي سبقه الكثير من الصبر الأرض لا تجود إلا بالصبر والعناء والتفاني كتلك المحبوبة الفاتنة التي ستجود بالحياة.

صبرت صبر الحجر في مدرب السيل وأعظم..

ما احد تعذب عذابي أو صبر أو تألم .

 

الأغنية اليمنية الشعبية "ملحمة الإنسان والطبيعة

ومن شعر مطهر الإرياني الذي ألف الأغنية الشعبية اليمنية في أبهى ألحانها إلى العديد من الشعراء الذين ضربوا عميقا في سهول ووديان ومرتفعات اليمن.

يأتي صوت أيوب طارش مليئا بالدفئ والمشاعر. شكلّ أيوب طارش مع الشاعر عبدالله عبد الوهاب نعمان الملقب بالفضول ثنائيا فنيا، ومدرسة للغناء التعزي.

فن ينبع من الطبيعة اليمنية المسيطرة على الأغنية واللحن والأداء، الطبيعة التي خلقت الفن المتأصل في أعماق الذاكرة الشعبية ، وكانت عودتنا إلى القرية مع كل أغنية يغنيها أيوب

نجد أغنية «ارجع لحولك» كانت لامرأة غاب عنها زوجها، وقيل إن أيوب حين غنّاها عاد ذاك المغترب من غربته ، هذه القصة تكرّرت على نطاق واسع مع أغنية «مسعود هجر» لعبدالباسط عبسي في فترة زمنية لاحقة، وحين قال: «من يبايعني بقلبي أنا بيّاع» في أغنية «طير مالك والبكا» زعموا أن نساء تعز خرجن بحليّهن ومجوهراتهن ليبتعن قلب أيوب..!

ومن الطبيعة نجد تعدد الأغنية التي تطرق مواضيع إنسانية فكان موضوع الغربة التي ارتبطت بحياة اليمني في مراحل تاريخه، معاناة عكسها الفن والأدب من شعر وقصة ورواية. ولكنها في الأغنية ترانيم جارحة مثال هذا نجده في أغنية البالة التي كتب كلماتها أيضا مطهر الإرياني.. يقول في مطلعها:

و ما للنسمة السارية

هبت من الشرق فيها نفحة الكاذية

فيها شذى البن فيها الهمسة الحانية

عن ذكريات الصبا في أرضنا الغالية

صورة عميقة لمعاناة التذكر والحنين حين هبت النسمة من الشرق لتهيج لواعج الشوق، لهذا المغترب عن أرضه.

والليلة العيد وأنا من بلادي بعيد

ما في فؤادي لطوفان الأسى من مزيد

قلبي بوادي «بنا» و«أبين» ووادي «زبيد»

هايم وروحي أسير الغربة القاسية

وتأتي حكاية هذا الرجل الذي رحل عن بلاده حين حل وباء الطاعون ومات جميع أهله وعاش وحيدا بروح ذوت مع الزرع الذي انتهى

أيام ما موسم الطاعون قالوا دنا

وماتوا أهلي ومن حظي النكد عشت أنا

عشت أزرع الأرض واحصد روحي الذاوية

و يبلغ حزنه مداه ، حين يتذكر أخاه الذي كان تاجرا يفترش تجارته الأرض، فجاء عسكر الإمام وأخذوا مامعه من مال، فقرر الرحيل إلى أرض قضى فيها نحبه..

ذكرت أخي كان تاجر أينما جا فرش

جو عسكر الجن شلوا ما معه من بقش

بكر غبش: أين رايح: قال: أرض الحبش

وسار.. واليوم قالوا حالته ناهيه

ويقرر الرحيل مثل أخيه عله يظفر برزق في أرض أخرى

 

بكرت مثله مهاجر والظفر في البكر

وكان زادي من اللقمة ريالين حجر

وابحرت في ساعية تحمل جلود البقر

والبن للتاجر المحظوظ والطاغية

ويبدأ مشواره المؤلم في البحث عن عمل في منطقة عصب في الحبش

بحثت عن شغل في الدكة وداخل «عصب»

وفي الطرق والمباني ما وجدت الطلب

شكيت لاخواني البلوى وطول التعب

فقالوا: البحر، قلت: البحر واسعية

و يحيا في البحر خمسة عشر عاما في مركب يوناني حيث اسودّ جلده من الفحم ، وعاش رحالا في بلاد عديدة.

وعشت في البحر عامل خمسة عشر سنة

في مركب ( اجريكي ) اعور حازق الكبتنة

وسود الفحم جلدي مثلما المدخنة

وطفت كم يا بلوِّد أرضها قاصيه

طوبوغرافية الأغنية الشعبية اليمنية… أوبريت «هيا نغني للمواسم ...

ويبقى البكاء والحنين ملاذه في تلك الأراضي البعيدة فتجري دمعة القلب :

من كان مثلي غريب الدار ما له مقر.

فما عليه إن بكى وأبكى الشجر والحجر

أبكي لك أبكي وصب الدمع مثل المطر

ومن دم القلب خلِّي دمعتك جارية

ويقرر العودة بعد هذه السنين الطويلة لأرضه ، لحضن أمه الغالية بعد أن مزق الشوق روحه .

 

غنيت في غربتي «يا الله لا هنتنا»

ومزق الشوق روحي في لهيب الضنى

راجع أنا يا بلادي يا ديار الهنا

يا جنتي يا ملاذي يا أمي الغالية

 

هذه الترجمة المأساوية للغربة التي صدحت بها الأغاني اليمنية العديدة ، استطاعت أن تصور بعمق مدى ما يمر به هذا الإنسان .

أغان شعبية يمنية جعلت من الأرض والإنسان اليمني لحنا خالدا أصيلا يضرب بجذوره عميقا في الأرض مؤلفا ملحمة إنسانية منوعة.

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص